شاب أحرق
بلدا= |
ماذا وقع؟
أقدم شاب عاطل عن العمل في ولاية سيدي بوزيد على
حرق نفسه فأحرق بلدا.مُنع من الانتصاب للتّجارة انتصابا
عشوائيّا مخالفا للقوانين الجاري بها العمل فأحرق بلدا.لا
يهمّنا أ كانت مؤهلاته العلمية تقف في المستوى
الثانوي أم هي تتعدّى ذلك لتصل إلى المستوى الجامعي.و سيّان
عندنا أكان الشّابّ محمد البوعزيزي مصحوبا بشهادة السيزيام أم
بشهادة ختم التعليم الأساسي أم بشهادة البكالوريا أو
الدّكتوراه لعرضها مع بضائعه التي يبيعها مخالفا القانون.المهم
أنّه مات فأحرق بلدا. و صار رمزا دالا و نموذجا يحلو للبعض الاحتذاء
به.
إن إقدام شابّ في مقتبل العمر على حرق نفسه أمام
مقرّ الولاية رمز السّلطة لأمر
محزن خطير. و عندما يكون هذا الشّابّ جامعيّا عاطلا عن العمل
فإنّ الأمر يصبح أكثر خطورة و إيلاما.
فلماذا وقع ما وقع؟
إن رد الأمر إلى أن موظّفا حكوميّا قام بإهانته على الملإ في بيئة
تأبى ذلك لتبرير سطحي لا يقنع كلّ الإقناع فالمسألة أعمق من
ذلك و أكبر.فأنا أرى أنّ السّياسة التعليميّة و التّشغيليّة و
تأجيل حلّ الأزمات جرّ هذا الشّابّ إلى مصيره المؤلم. ففي
الفترة التي درست فيها كان المسؤولون يصرّحون أنّ 4 في المئة
فقط من تلاميذ الابتدائي يصلون إلى الجامعة بينما الباقون
يتسرّبون في ما بين هذين الحدّين ليحتلّوا أمكنة متفاوتة
الأهمّيّة في الدّورة الاقتصاديّة للبلاد.غير أنّ السّياسة
المتوخّاة بعد ذلك المتمثلة في بيداغوجيا النجاح شبه الآليّ قد
بيّنت فشلها و عقمها و تهافتها فقد سجّلنا أرقاما
قياسيّة فاخرنا بها الدّول و كدّسنا المتخرّجين تكديسا غير
أنّهم أصبحوا يقومون بنفس الأعمال و الوظائف التي يقوم بها
المتسرّبون من المدرسة سابقا أو هم يبقون عاطلين عن العمل حتّى
يقع استيعابهم في سوق الشّغل الشّحيحة لأنّه لم يقعْ تأهيلهم
لغير التّدريس أو الأعمال الرّاقية التي ينتظرونها و يحلمون
بها.فمن حصل منهم على شغل فقد فاز و من لم يحصل عليه بطرق
متنوّعة مريبة أحيانا فله سبل عديدة للبقاء على قيد الحياة
و إلاّ فالموت و الانتحار في انتظاره.
و إلى جانب ما ذكرت فإنّنا لم نتدرّب و لم نتعوّد على
التّعبير و التظاهر ...لا تقل لي إنّ المظاهرات تخضع للقوانين
الجاري بها العمل .فذاك هراء لا يصمد أمام أحداث الواقع و
أخبار التاريخ.فالتظاهر دائما فيه مخالفة للقانون و خرق
للنّظام .فمن منّا لا يحبّ النعيم و الأمن و الأمان و دوام الحال
على ما هو عليه من الثبات و الاستقرار؟.و متى كان التظاهر
موافقا للقوانين ؟دعْك من التظاهرات الاحتفالية و المفتعلة التي تكرّس
الواقع فلا علاقة لها بالمظاهرات التي أقصدها في هذا المقال و
التي يكون فيها المتظاهر مقهورا متألما غاضبا يستوي عنده الموت
و الحياة.
إذا ما أراد العاقل أن لا يكون الغضب قاتلا و القهر
مدمّرا فعليه أن يمنع أسبابه . و ذلك بأن يفسح المجال للتّظاهر
العفويّ فلا يكون ظرفيّا و لا مقموعا بل يجب أن يكون تلقائيّا
ودوريّا و حضاريّا و متنوّع الأشكال,فيتدرّب المواطنون منذ
الصّغر على ثقافة جديدة هي ثقافة التّظاهر و التّعبير.فيكون
الجيل الرّاهن على غير ما ربّي عليه الجيل السّابق الذي لا
يعرف كيف يعبّر و لا ماذا يقول لأنه
لم يتدرّب على ذلك تدرّبا و لم يمارسه ممارسة بل هو دُرّب و
حُمّل عقليّة هروبية موروثة تقصي الآخر و تدمّره أو تكفّره و تحقّره و
لا ترضى به شريكا.
أين تكمن الأخطاء؟
إنّ أخطر ما في المسألة هو ارتكاب أخطاء
قاتلة:
أوّلها:أنّنا شرّعنا و يا للأسف عفوا أو قصدا إلى أمر خطير
يتمثّل في أن الذي لا يفتكّ حقه بيده لا يناله و لا يتحصّل
عليه.فقد بان واضحا
لعموم التّونسيين أنّ الذي لا يخرج إلى الشّارع و لا يصرخ و لا
يدافع عن حقه و لا يقاتل في سبيله و لا يحرق نفسه و لا ينتحر و
لا يكون "ذراعو في وجهو"لا ينال شيئا و لا يستمع إليه أحد و لا
يكون مهابا و لا محترما. و نتيجة لذلك فقد بان واضحا أنّ
سياسة"ذراعك يا علاّفّّّ"التي ودّعناها و أرسينا خلافها منذ
عقود قد عادت قويّة مرعبة.و أنّها سياسة ناجحة تؤتي أكلها
أ ليست نتائجها ظاهرة واضحة للعيان؟.فنحن إذن أمام تكريس جديد للعنف و
أخذ الحقّ باليد بعدما باتت عبارات القانون و الحوار الهادئ و التّعاون و
التّآزر لا تعني شيئا.باختصار لقد جعلنا العنف شرعة و منهاجا و يا للأسف.
و ثانيها:يتمثّل في أنّنا نملك الحلول و لا
نبادر بها إلا تحت الضغوط.فمشاكل البطالة لها حلول إذ أنّه
بالإمكان تشغيل 300ألف عاطل عن الشّغل في ظرف سنتين اثنتين. و
معنى ذلك أنّه عندما تتظافر الجهود و يصدق السّعي و يبعد عنّا
شبح الأنانيّة تصفو الضّمائر و يرين التّعاون فنجد حلولا.
فلماذا العذاب و ذلّ البطالة و الفقر و
دفع النّاس إلى اليأس و الانتحار إذا كانت الحلول ممكنة؟
و ثالثها:أنّ الإقصاء و الانفراد و
ادعاء امتلاك الحلول دون المبادرة إلى تطويق الأزمة لعدم
جدّيّة القواعد التي يعوّل عليها في مثل هذه الظّروف جعلت الفرصة سانحة لمن
يريدون المناورة فاستغلّوا الموقف و ركبوا الأحداث العفويّة. و ساهموا
في بلوغ أهدافهم.و لعمري إنّ ذلك أمر مفهوم بما أنّ الفرصة
مواتية. و من لا يستغل الفرص و نقاط ضعف الطّرف المقابل في لعبة
السّياسة غبيّ لا يعرف كيف يصل إلى أهدافه التي يصبو إليها.
فما دام الطّريق سالكا و
الإمكانيّة متوفرة فلا تلومنّ أحدا على استغلالها لأنّك تركت
له فرصة المناورة.
و رابعها:أن التونسيّ عبّر عن قدرته و
قوته و شدّة صبره.و أنّه عندما يصل به الأمر إلى أقصى مداه
يثور . و عندما يثور يحرق..."يحرق" نحو الخارج و يغامر برّا و
بحرا و جوّا...و يحرق نفسه بالنار حدّ الموت و يحرق كلّ شيء
البلديات و المعاهد و القباضات المالية و مكاتب التشغيل و
البنوك و المنازل و المحال التجارية و غيرها...فالنّار تأكله و
تأكل كلّ ما يحيط به...أ ليس ذلك إرث عليسة المستعمرة التي
جاءت من صور؟ فلما يئست ألقت بنفسها في لهيب النّار
صائحة:"النار و لا العار"أ ليس ذلك أيضا ما فعلته
الكاهنة حين قدم المسلمون؟ فأحرقت كل أخضر و يابس و دمّرته
منفّذة سياسة الأرض المحروقة لمنعهم من الاستفادة من خيرات
البلاد...
اللهم إن هذا إرث لعين لكنّه جزء من
ثقافتنا التي هي نحن...
و بناء على ما تقدّم,فلا نستهيننّ بما
يحدث باعتباره سحابة صيف تمرّ.بل هو دمار للبلد و ولادة عسيرة
.فالمستقبل يدعونا
إلى أخذ العبرة و تطويق الأزمة و تجاوزها بقبول الآخر المختلف
و التكاتف و التعاون
سلميا و الإنصات إلى بعضنا بعيدا عن الجهوية و العروشية و
التقوقع ,و الانكباب على الملفات الحقيقية كالبطالة و
المحسوبية و هدر المال العام و الحياة الكريمة و المشاركة في
البناء و لا يكون ذلك إلاّ باتخاذ
مشروع يسعى المجتمع كلّه إلى إنجازه و لا يمكن ذلك إلا بمعاملة كل فرد على أساس أنّه إنسان
محترم و أنّه ثروة لا ينبغي التفريط فيها.فالتونسي ثمين خلاق مسالم متى لم يصل الضرر إلى العظم.
صحيح أنّه يقنع بالقول و لكن غضبة واحدة منه تحرق بلدا...
منزل جميل أوائل جانفي 2011
Partager
|
|
|