تجديد فهم الإسلام: |
مقدّمة
=
في خضمّ
ما يعتمل من أحداث و
ما يقع من
ممارسات لا بدّ لصاحب الفكر من إعماله في
مسائل,تشغل البال و تدعو إلى فتح نوافذ جديدة
على الحياة و الآخر.و الإسلام من أكثر
المواضيع الّتي تثار حولها النّقاشات
و تستعر في شأنها المخاوف و الصّراعات.
و المفروض أن يكون فهم الإسلام مرتبطا بنفس
مستوى هذا الدّين الذي ارتضاه الله لعباده. و
معنى ذلك أنّه إن لم يكن هذا الفهم راقيا
متجدّدا مواكبا للحياة فلا خير فيه و سوف
يتجاوزه الزّمن و يلقي به في سلّة الأفكار
القديمة التي لا تتفاعل مع التّحوّلات و لا
تغيّر الوجود.
و بدءا أقول,إنّ مزالق التّعامل
مع هذا الموضوع الحسّاس تجعل النّاظر في
مسائله يلوم نفسه عند الخطأ بالرّغم من أنّه
يعلم أنّ من اجتهد و أصاب فله أجران و من
اجتهد و لم يصب فله أجر واحد.فلا بدّ لذلك من
الحذر.ألسنا نعيش في زمن مأزوم ؟
و مع ذلك فلأشْرع في تحديد المسألة التي
سأناقشها هنا فهي ترتبط بقوله تعالى:" اليوم
أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت
لكم الإسلام دينا"(1).و الإشكاليّة التي أودّ
معالجتها هي كيف يكون الإسلام دينا مواكبا
للحياة و الحال أنّه دين مكتمل؟فالاكتمال
يقتضي الجمود و عدم النّماء بينما الحياة نموّ
و استمرار. وتبعا لذلك سأحاول فهم ما ورد في
هذا الموضوع لتوضيح الصّورة بمراجعة معنى
الإسلام الذي رضيه الله لنا دينا أو إعادة فهم
معنى الاكتمال أو تجديد النّظر في كليهما
معا.المهم أن أبدأ في علاج المسألة بتقسيمها
للسّيطرة عليها ولذلك سأتناول موضوع الإسلام
أوّلا ثمّ موضوع اكتماله ثانيا . و معالجتي
للمسألة تقتضي عمليّا الجمع بينهما أثناء
التّحليل.
1)في معنى الإسلام
و اكتمال الدّين:
يقول تعالى:"و من يبتغ غير الإسلام دينا
فلن يُقْبَل منه و هو في الآخرة من
الخاسرين"(2). فهل أصحاب الدّيانات الأخرى
كاليهوديّة و النّصرانية و المجوسيّة و غيرها
من الأديان هم من الخاسرين و هل يكون مجرّد
قولنا نحن مسلمون مدعاة للغنم و ربح الآخرة؟
فإن كان الجواب بالنّفي ،فما المقصود إذن
بالإسلام و كيف فهمه العلماء المسلمون؟.
لكي نجيب عن هذا السّؤال الأخير لا بدّ من
التّفرقة بين الإسلام و الإيمان و الشّريعة و
الدّين و الملّة و غيرها من المصطلحات و هي
مصطلحات بينها تداخل و ترادف و خلط أحيانا.فالتّهانوي(3)
لاحظ أنه بين الإسلام و الإيمان تغاير عند
البعض و ترادف عند البعض الآخر و كذلك الأمر
في لسان العرب لابن منظور قبله
فهو
يعرّف الإسلام بقوله :" الإسلام هو الاستسلام
و الانقياد و هو من الشّريعة :إظهار الخضوع و
إظهار الشّريعة و التزام ما أتى به النّبيّ
صلى الله عليه و سلّم و بذلك يحقن الدّم و
يستدفع المكروه"(4)
و أمّا الإيمان عنده فمعناه التّصديق
فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد و تصديق
بالقلب ,فذلك الإيمان الذي يقال للموصوف به هو
مؤمن مسلم , و هو المؤمن بالله و رسوله غير
مرتاب و لا شاكّ و هو الذي يرى أنّ أداء
الفرائض واجب عليه و أنّ الجهاد بنفسه و ماله
واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب فهو المؤمن حقا
كما قال الله عزّ و جلّ:"إنّما المؤمنون الذين
آمنوا بالله و رسوله ثمّ لم يرتابوا و جاهدوا
بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم
الصّادقون ؛أي أولئك الذين قالوا إنّا مؤمنون
فهم الصّادقون, فأمّا من أظهر قبول الشّريعة و
استسلم لدفع المكروه فهو في الظّاهر مسلم و
باطنه غير مصدّق .فذلك الذي يقول أسلمت لأنّ
الإيمان لا بدّ من أن يكون صاحبه صدّيقا
....فالمؤمن مبطن من التّصديق مثل ما يظهر و
المسلم التّامّ الإسلام مظهر للطّاعة مؤمن بها
,و المسلم الذي أظهر الإسلام تعوّذا غير مؤمن
في الحقيقة ,إلاّ أنّ حكمه في الظّاهر حكم
المسلمين"(5).
و أمّا الشّريعة فجاء في تعريفها
قوله:" مورد الشّاربة ، تشرع فيه الدّواب
(أي تستقي و تشرب الماء وحدها دون تدخّل
الرّاعي المهتمّ بها ) و هي ما سنّ الله من
الدّين و أمر به كالصّوم و الصّلاة و الحجّ و
الزّكاة و سائر أعمال البرّ (6).و قد وردت
لفظة شريعة في القرآن الكريم نكرة حيث أمر
الله الرّسول (ص) باتّباعها ما دامت تخالف
الأهواء و الجهل و الجهلاء في قوله تعالى
:"ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها و
لا تتّبعْ أهواء الذين لا يعلمون"(7)
و أمّا الإِمّة و الأُمّة عند ابن
منظور فمن معانيها الشّرعة و الدّين و السّنّة
و الطّريقة و قد ارتبط المعنى في ما يتعلّق
بقوله تعالى:"كان النّاس أمّة واحدة فبعث الله
النّبيّين مبشّرين و منذرين"(8) بدين الكفر في
الفترة الممتدّة بين آدم و نوح ثمّ بعد تفرّق
الّذين هم مع نوح و هي عند آخَرَ قبل مبعث
إبراهيم عليهم السّلام جميعا.بينما في الآية
الأخرى :":كنتم خير أمّة أخرجت
للنّاس"(9)بمعنى أهل دين لارتباطهم بدين الله
أعني الإسلام.
و أمّا الدّين فمن معانيه الإسلام و
القهر على الطّاعة و القرض و الجزاء و العادة
سواء كانت خيرا أو شرّا و قوله عليه السلام في
الحديث أنّه كان على دين قومه قال ابن الأثير
:"ليس المراد به الشّرك الذي كانوا عليه و
إنّما أراد أنّه كان على ما بقي فيهم من إرث
إبراهيم عليه السّلام من الحجّ و النّكاح و
الميراث و غير ذلك من أحكام الإيمان .و قيل هو
من الدّين العادة يريد به أخلاقهم من الكرم و
الشّجاعة و غير ذلك.(10)
و أنا أرى أنه لا بدّ من تخليص هذه
المصطلحات ممّا شابها و خالطها من تداخل و
غموض و إبهام أحيانا . و لتوضيح ذلك أقول
ينبغي الفصل بينها فصلا منهجيّا صارما لأنّها
تلتقي أحيانا في مناطق و لحظات مرهفة دقيقة.و
قد يكون ذلك مبرّرا لاستعمالها مترادفة و
الخلط بينها في الكثير من المواضع المذكورة
سالفا.
و أمّا الشريعة فقد عرّفها التّهانويّ
حين قال في شأنها:"هي كلّ طريقة موضوعة بوضع
إلاهيّ ثابت من نبيّ من الأنبياء ،و يطلق
كثيرا على الأحكام الجزئيّة التي يتهذّب بها
المكلّف معاشا و معادا.سواء كانت منصوصة من
الشّارع أو راجعة إليه"(11) .
و يضيف قائلا"يسمّى الشّرع أيضا بالدّين و
الملّة و لكن تلك الأحكام من حيث أنّها تطاع
دين و من حيث أنّها تملى و تكتب ملّة و من حيث
أنّها مشروعة شرع فالشريعة و الملّة تضافان
إلى النّبيّ عليه السّلام و إلى الأمّة فقط
استعمالا و الدّين يضاف إلى الله تعالى
أيضا."(12)
فالإيمان هو التّصديق بالقلب و هو
شخصيّ، خفيّ، محدود في الزمن بحياة الفرد
المؤمن ،متعلّق باللحظة الرّاهنة .و هو غير
كاف وحده لأنّ الدّين لا قيمة له إن لم يقترن
فيه الإيمان بالسّلوك و العمل مع الالتزام و
الانقياد في ذلك الأداء بما جاء به الأنبياء و
ارتضاه الله لقوم من الأقوام.
و من هنا سننطلق لتحديد
مصطلح الإسلام الذي يثير مشكلة لأنّه يقع
الخلط بينه بين بقيّة المصطلحات من ناحية إلى
جانب ما يشوبه من غموض في الاستعمال بسبب
الخلط أساسا بين الإسلام دين الله الذي جاء به
كلّ الأنبياء و بين الرّسالة المحمّديّة التي
تسمّى أيضا الإسلام .و ذلك هو حسب رأيي سبب
الخراب الذي نراه و سوء الفهم الذي ميّز
تاريخنا.
فالإسلام في نظرية العلماء المسلمين
هو دين الله.و قد استمدّوا ذلك من قوله
تعالى:"إنّ الدين عند الله الإسلام"(13). لكن
أيّ إسلام؟ أية نسخة منه؟ أهو إسلام آدم أم هو
إسلام نوح أم هو إسلام إبراهيم أم هو إسلام
موسى أم هو إسلام عيسى أم هو إسلام محمد؟و كلّ
تلك النّسخ السّابقة للرسول (ص)نحن مطالبون
بالإيمان بها أي تصديقها و تمثّلها و أخذها
بعين الاعتبار و احترام أهلها ما داموا
يتقدّمون بالبشريّة و يحترمون الآخر و يسعون
إلى النّهوض به في ناحية من نواحي الحياة. و
قد برهنت هذه النظرية عن سلامة أطروحتها
لتناغمها مع مقولة التّوحيد التي لا ينكر أحد
صلابة أسسها النّظريّة ومتانة بنيتها
العقديّة.غير أنّ ما يشوب تلك النّسخ أنّها
قديمة و سنّة الحياة هي التّجديد و مواكبة
التّغيّرات و السمو بنا نحو الأفضل مادّيّا و
معنويّا.
فالشّريعة إذن جزء من الدّين و هي الجزء
الثّابت المتمثّل في الجانب الظّاهر منه و هي
سلوك منجز غير كاف و التزام فردي أو محدد بفهم
حرّ متناغم مع ما اتفق عليه مجموع من يقولون
بذلك و يمارسونه في فترة زمنية محدودة أو حدود
جغرافية مضبوطة مشروطة بوجود نّبيّ
*هو الذي
يتلقّى الشّريعة و يمارسها و يراقب حسن أدائها
و يضمن تنفيذها لأن الدّواب تستقي بحرّية و
المشرّع لا يجد تعبا في جعلها تستسيغ ذلك
لتعطّشها و حاجتها إلى الماء من أجل الحياة و
لدرء الموت إن لم تشرب من ذلك الماء و لم ترد
ذلك المورد الذي لا بدّ من الولوج فيه و العبّ
منه و إن كان ملوثا قد ولغ فيه الآخرون و
داسوه و كدّروه و وطئته أقدامهم لأنّها لا
ترتبط بالفرد البعيد عن المجتمع و إنّما هي
تتعلّق بالشّخص الذي يخالط النّاس و يتعامل
معهم و يرتضي شريعتهم و و ينقاد إلى المشرّع.
فأمّا علاقة الشريعة بالفقه فأودّ التفريق
بين الموضوعين بخلاف ما ذهب إليه التهانوي
شأنه شأن بقيّة العلماء المسلمين الذين يجعلون
الشريعة فقها و الفقه شريعة دون أي أدنى تفرقة
.و لكنني أقول بين المصطلحين اختلافات و فروق
يجب أخذها بعين الاعتبار فالشريعة وجهتها
الماضي أي زمن النّبيّ صاحب الشّريعة بينما
نقطة ارتكاز الفقه الزمان الحاضر ذلك الزمن
الذي لا يوجد فيه نبيّ فالشريعة مقدسة بينما
الفقه فاقد للقداسة .لأن مشرع الشريعة نبي
يوحى إليه عن طريق وسيط هو سيّدنا جبريل
عليه السّلام بينما مشرّع الفقه إنسان غير
مقدّس لا يوحى إليه. و النبيّ المشرّع يراجعه
الله و يوجهه بينما الفقيه لا يوجهه غير فطنته
و عقله الذي به يفهم الواقع و قد يسلّط عليه
النّصوص المقدّسة.
فكيف نرضى بما يقول الفقيه و الحال أنّه
يستمدّ قداسته من النّصّ الذي يستثمره ليسلّطه
على الواقع .النّصّ مقدّس بينما استنتاجات
الفقيه غير مقدّسة .و إنّما تستساغ فقط إذا
كانت متناغمة مع مكارم الأخلاق و التقدّم
بالحياة. و لذلك وجدنا أبا بكر رضي الله عنه
يشرّع قتال رافضي دفع الزكاة من المرتدّين .و
كذلك عمر بن الخطّاب في ما يخصّ صلاة التراويح
و الامتناع عن قطع يد السّارق و توريث الأحفاد
حين يموت الأب قبل الجدّ رغم غياب النّصّ و
كذلك الأمر بالنّسبة إلى إلغاء الرقّ في تونس
مثلا سنة 1846 ليلغى بذلك عنصر مهمّ يهمّ
الكفّارات في أمور العبادات.
و أمّا عن علاقة الشّريعة بالإسلام
فهي مع الجانب غير الظّاهر من الدّين تمثّل
مرحلة أو نسخة من نسخ الإسلام يأتي بها نبي أو
رسول في مدّة معيّنة ويفهمها فهما متماشيا مع
الغايات و النّضج الاجتماعي و العقلي لقومه من
أجل تطويرهم و البلوغ بهم درجة أرقى في
الإنسانية بعيدا عن السّفالة و الحيوانيّة
التي جاء كل الأنبياء لنبذها و العزوف عنها و
تلك هي غاية الإسلام دين الله.و قد لخّص ثعلب
ذلك في قوله "فكلّ نبي بعث بالإسلام غير أنّ
الشّرائع تختلف ".
و لذلك فالشرائع ساكنة يلغي اللاحق منها
السّالف.بينما الإسلام متحرك قدما لا يلغي
إلاّ الجانب السّلبيّ الذي لا يطوّر الإنسان و
لا يضيف إلى الإنسانيّة جديدا .و تسمّى تلك
الشّرائع المتلاحقة إسلاما مجازا.
و بهذا البيان تحلّ المعضلة و تصبح
المسألة واضحة وضوح الشمس فإذا معنى قوله
تعالى :"اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم
نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا" على النحو
التالي: أيْ اكتمال نسخته المجملة التي أنعم
الله بها على من عاصروا محمدا و آمنوا به حين
بلغتهم رسالته
و رضي لهم الإسلام دينا دين البشرية حين
ألحقهم بالرّكب بعدما كانوا عنه بعيدين .....
2) في المراحل التي مرّ بها الإسلام في
جملة تاريخه:
يمكن تقسيم المراحل التي تدرّج فيها
الإسلام إلى مرحلتين كبريين الأولى هي المرحلة
العموديّة و الثّانية هي المرحلة الأفقيّة. و
تبدأ المرحلة العموديّة للإسلام بآدم عليه
السّلام وتنتهي بالنّبيّ محمّد صلّى الله عليه
وسلّم.و قد لخّصها قوله تعالى آمرا الرّسول(ص) و صحابته
:"قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ
لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"(14). و بيّنت ذلك
بوضوح الآيات التّالية حيث أخبر أن نوحا عليه
السلام قال في خطابه لقومه :"فَإِن
تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (15).و وصف
سبحانه وتعالى بيت لوط بالإسلام، فقال فيهم
"فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ
الْمُسْلِمِينَ"(16) و أخبر الله تعالى أن
إبراهيم ويعقوب أوصيا بالموت على الإسلام،
وأنّ إبراهيم كان من المسلمين،في قوله:"إِذْ
قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"(17)
وأخبر أن بني يعقوب أقرّوا على أنفسهم
بالإسلام فقال:"أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ
حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي
قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ
إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ"(18).وأخبر أنّ إبراهيم وإسماعيل
كانا يقولان في دعائهما:" ربّنا واجعلنا
مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّة مسلمة لك"، وقد
وصف إبراهيم بالإسلام ونفى عنه اليهوديّة
والنّصرانيّة، فقال :"مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن
كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ" (19). وأخبر أنّ سحرة فرعون
بعد إسلامهم دعوا الله تعالى فقالوا: رَبَّنَا
أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا
مُسْلِمِينَ" (20).وأخبر أنّ موسى عليه السلام
قال في خطابه لبني إسرائيل: وَقَالَ مُوسَى
يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم
مُّسْلِمِينَ"(21). وأخبر أنّ سليمان عليه
السّلام قال في رسالته لسبأ: إِنَّهُ مِن
سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ"(22).و أخبر
تعالى أنّ الحواريّين أشهدوا عيسى على
إسلامهم، فقال:"فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى
مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي
إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"(23).
فالأنبياء جميعا متّفقون على نفس
النّهج و المبدأ ألا وهو الإسلام دين الله ذلك
الخيط الرابط بينهم جميعا .لكنّه في المرحلة
العموديّة يأتي به نبيّ أو رسول عن طريق ملاك
في سبيل الرقيّ بالإنسانيّة و توحيدها حول
غاية أخلاقيّة هي البعد عن الحيوانيّة و بلوغ
أرقى مراتب الإنسانيّة و نشدان الكمال ,لأنّ
الإنسان مشدود بالتّراب توّاق إلى مصدر سرّ
نفخة الرّوح . و لذلك فاكتمال الدّين أمر يتوق
إليه الإنسان و قد يصل إلى ذلك في مرحلة
معيّنة ينتقل إلى غيرها حين تنضج مداركه.
و لو كان معنى الكمال مخالفا لهذا الفهم لصار
قول الشاعر أبي البقاء الرّندي: لكل شيء إذا
ما تمّ نقصان" صادقا على الإسلام.و حاشا لدين
الله أن يكون كذلك. و لِتجاوز المعضلة كان لا
بدّ من تجديد فهم الإسلام و تغيير الرأي
الشائع الذي جرّ إلى مآسي مؤلمة أعادت الإنسان
إلى حيوانيّته و عجرفته عوضا عن أن يسعى به
إلى العلاء و يسمو به نحو الأفضل. و حقيقة
الأمر أنّني لم أرتاح إلى أيّ طرح ممّا راودني
في بحثي و إعمال فكري غير أن أتناغم مع الفهم
القرآني للإسلام الّذي جعل الإسلام دين الله
فكانت غايته هي الله تعالى و لا أحد سواه.
فالإسلام إذن غاية منشودة لا نزعة موجودة وهو
نشدان الكمال الإنسانيّ لا عودة إلى النّقص
الحيوانيّ و هو سيرورة لا تكلّ و لا تنكص على
عقبها و لا تنتهي . و لعلّ قول الرّسول (ص)
إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق يلخّص رسالة
الإسلام و يوضّح الفكرة أكثر فإتمام مكارم
الأخلاق لا ينفي وجودها عند الآخر و لا يقطع
معها. إنما هو يواصلها في خطّ مستقيم متقدّم
نحو هدف واضح جليّ مشرع النّوافذ مفتوح
الأبواب في اتّجاه المستقبل. و ما دلالة صيغة
الفعل المضارع المنصوب على الاستمرار في
الزّمان المقبل إلا دليل على ما أقول: فبناء
الأخلاق ليس مكتملا و إلى يوم النّاس هذا و لو
فرضنا أنّه اكتمل في ما جاء به الرّسول محمّد
(ص) لكان محدودا بعصره لا يتجاوزه إلى غيره
ذلك لأنّ الإسلام مشروع وجود و مجهود مستمرّ و
عمل دائم لا حدود له و الأخلاق الموجودة
غايتها نشدان الكمال و إلاّ ما قيمة تواصل
الحياة و إكمال ما بدأه الرسول (ص)
بالفتوحات.أعني بذلك فتح العقول و القلوب لهذا
المشروع الأزليّ.
فالإسلام وهو دين الله مشروع بناء يبنى
لبنة لبنة و قد اكتمل البناء باكتمال الوحي و
معنى ذلك أنّ النّزول العموديّ للإسلام قد
انتهى فلا ينتظرنّ أحد بعدما أعلن الرسول (ص)
أنه خاتم الأنبياء نبيّا آخر يأتي من بعده و
لا يدّعينّ بعد ذلك أيّ إنسان أن قد أتاه
الوحي عن طريق جبريل و لا يعتمدنّ أحد من
البشر على رسالة تأتي من السّماء.و إنّما كلّ
ما في الأمر أنّ الإنسانيّة دخلت مرحلة جديدة
من التّعامل الأفقيّ المسؤول مع أحداث
التّاريخ. .عزّزها إعلان الرّسول (ص) أنّ
العلماء ورثة الأنبياء في إكمال بناء
الأخلاق.و دعوته البشريّة إلى السّعي و
التّعلّق بما وراء العرش. لكن لا يخفى عليكم
أنّه مثلما وجد أدعياء من الأنبياء شوّهوا
بناء الأخلاق وجد و يوجد علماء أفسدوا و
يفسدون الحياة باستغلال العلم و التّكنولوجيا
استغلالا مشينا مضرّا بالبيئة و الإنسان و
الكون عموما. و قد أشار الرّسول(ص) إلى أنّ
المستقبل منوط بعهدة الجيل الجديد حين جعل
الصّحابيّ الشّابّ ذا الثّمانية عشر ربيعا
أسامة بن زيد على رأس جيش
ينشر الدّين الجديد و يواصل رسالة الإسلام
قبيل موته ليعلن بذلك أنّ هذا الجيل الجديد هو
من يواصل المشروع.و
الرّسول صلى الله عليه و سلّم كان عارفا أنّ
ما فعله محدود بالفترة الزمنية الضّيّقة التي
بعث فيها و هي فترة يشوبها النّقصان و لذلك
اعتبر أصحابه نجوما يهتدى بهم . وهو صلّى الله
عليه و سلّم كان واعيا أنّ الآتي أفضل من
السّابق و لذلك مجّدنا و مدحنا حين اعتبرنا
نحن الّذين يأتون من بعده أكثر إيمانا و يقينا
لأنّنا لم نره و مع ذلك آمنّا برسالته و
صدّقناه و نشرنا دين الله من بعده. ففضل
أصحابه رضوان الله عليهم أنّهم أدركوه و عاشروه و آزروه و
فضلنا نحن أحبابه أنّنا واصلنا الرّسالة بعده
و أدركنا أسرار دعوته حين علمنا أنّه آخر
النّبيّين و لا نبيّ بعده فاستلمنا المشعل
لمواصلة المشوار...
هم خير من ناصر محمّدا (ص) في فترة وجودهم.و
هم أفضل من فهموا الرّسالة الإلهيّة الّتي هي
الإسلام لأنهم لم يكتفوا بما وصلوا إليه و
إنّما واصلوا السّعي و لو اكتمل الإسلام بنزول
الآية لما واصلوا الدّعوة و لانقطع عملهم
بوفاته صلّى الله عليه و سلّم و لانتهت
الحياة.... و لعل أبا بكر هو أوّل من فهم أن
الإسلام الذي جاء به محمد قد اكتملت نسخته و
انتهت بموته حين قال: "من كان يعبد محمدا فان
محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي
لا يموت". فالنسخة الأخيرة من الإسلام التي
بعث بها الله للنّاس اكتملت و انتهت مع وفاة
الرّسول (ص) بينما النسخة الإلهية للإسلام دين
الله لمّا تكتمل و لن تكتمل حتى يرث الله
الأرض و من عليها أي حين تصل الإنسانية إلى
أقصى درجات النّضج و الكمال و التّحرّر من كل
ما يعرقل سعيها نحو الأفضل في طريقها إلى
الجنّة و ما فيها من نعيم مقيم... و قد خصّت
الرّسالة المحمّديّة بلقب الإسلام دون غيرها
من الرّسالات لآنّ هذه الأخيرة تمثّل لحظة
مفصليّة تقطع الصّلة بالمرحلة العموديّة و
تفتح الباب على مرحلة جديدة هي المرحلة
الأفقيّة للإسلام.
و الرسول(ص)كان واعيا أن المستقبل أفضل
من الماضي حين اعتبر أصحابه نجوما يهتدى بهم
في الظّلام.لكن قد يخفى على من يقرأ الحديث و
هو غير مستنير قلبه بالإيمان غير عامر فؤاده
بأسرار الرسالة المحمدية غير واثق من البناء
الأخلاقي الذي جعله الله لنا مشروعا نتمه و
نزينه كأنّما هو يوجّهنا قائلا:" فلتعيشوا في
صباح و لتزيلوا عن أنفسكم النظرة السوداوية و
العمل في الليل و الخفاء لتستنيروا بالنجوم
مؤقّتا و ليتغيّر ليلكم إلى نهار و ظلامكم إلى
نور و سراكم إلى سير في الضّوء فأنتم أقمار و
شموس تهتدي بكم البشرية و إلا فما منزلتكم و
ما قيمتكم إن بقيتم في الظّلام و لبستم
السّواد و لم تغيّروا حالكم و حال العالم نحو الأفضل.
ذاك هو فهمي للإسلام دين الله .ذاك
هو الإسلام الذي يريده الله للبشرية جمعاء.
ذاك هو الإسلام الذي لا تشارك في بنائه
الشّعوب الإسلامية وحدها. بل تشارك فيه كلّ
الشعوب ليكتمل بناء صرح الأخلاق التي تسمو
بالإنسان و تجعله يختلف عن الحيوان و لم لا
الارتقاء بها إلى أعلى المراتب؟.و أظنّ أنّ
أبا حيّان التّوحيدي فهم هذه الغاية التي يرمي
إليها الإسلام حين تجاوز في مسألة تفاعل
الثقافات تقسيمها على أساس العرق و الدّين و
الاقتصاد و غيرها من الأسس لينتهي إلى تقسيمها
على أساس الأخلاق حين قال:" إذا قوبل أهل
الفضل و الكمال من الروم بأهل الفضل و الكمال
من الفرس تلاقوا على صراط مستقيم،و لم يكن
بينهم تفاوت إلاّ في مقادير الفضل و حدود
الكمال ,و تلك لا تخصّ بل تلمّ.و كذلك إذا
قوبل أهل النّقص و الرّذيلة من أمّة بأهل
النّقص و الخساسة من أمّة أخرى,تلاقوا على نهج
واحد, و لم يقع بينهم تفاوت إلاّ في الأقدار و
الحدود؛و تلك لا يلتفت إليها,و لا يعار عليها؛
"(24).و ما فتئ المصلحون و العمّال و
الفنّانون يسعون لإنجاز ذلك على أرض الواقع
بواسطة الإبداع البشري الذي لا يريده من
يعيشون في الظلام و لا يرون نور الشمس و القمر
الساطع بل لا يريدون أن يكونوا كالشموس و
الأقمار و الجفنات شان الصّحابة الّذين كانوا
كالنّجوم بأيّهم اقتدينا اهتدينا... هذا هو
تجديد الإسلام.
كلّ الشّرائع سعت للعلاج و التّغيير ما
دام في النّاس الشّرور .و ما هي سوى اجتهادات
تريد بلوغ أرقى المراتب.فبقدر ما يبتعد
الإنسان عن العنف و القتل و الفساد و النّقائص
التي جاء الأنبياء و الرّسل و العلماء
الصّادقون للتّحذير منها و تجنيب الإنسانيّة
مساوئها هي في الطّريق السّويّ للإسلام.
و عندما تنحرف عن هذا الطّريق فيا خيبة
المسعى . و في رأيي أنّ من صنع السيّارة و
الهاتف و آلة التّسجيل و كلّ الوسائل التي
تقدّمت بالإنسانيّة هم على الدّرب السّليم و
إن اختلفت الملل و النّحل و الشّرائع و لا
أقول الدّيانات لأنّ كلّ الشّرائع السّابقة
للمرحلة الأفقيّة قد جبّتْ نستفيد من محاسنها
و نلقي بمساوئها ينظّم بها الأقوام حياتهم
اليوميّة دون إلزام . قد يقول البعض هذه
مثاليّة .و هل الإسلام غير ذلك في مكارم
الأخلاق التي تسمو بالإنسان في رؤية واضحة
تسعى بالإنسانيّة نحو الجنّة ذلك أنّ المستقبل
أفضل من الماضي و الحاضر.
على سبيل الخاتمة:
فالدّين هو الإسلام و سمته الأزلية الّسّعي إلى تحقيق أفضل مراتب
الإنسانيّة.
و الإيمان هو التّصديق و هو خفيّ لأنّ محلّه
القلب و هو متميّز بالتّقلّب و التّغيّر.
و الشّريعة هي الجزء الظّاهر من الدّين و هو
يتميّز بالثبات و لا يأتي به إلاّ نبيّ فإن
مات أولئك الأنبياء عوّضتها قوانين الفقه و
غيرها من التّشريعات . و لا يدّعينّ أحد أنّ
لها العصمة و القداسة مطلقا لأنّها تكون مقدّسة
بوجود النّبيّ و تفقد تلك الهالة عندما
يغيب هذا الأخير
و ذلك لثلاثة أسباب الأول أنّ التغير سمة
ملازمة للحياة و الثاني أنّ أفهام الناس قاصرة
عن إدراك ما أراده المشرع بالدقة التي بلغ بها
سيدنا جبريل الشريعة للأنبياء و الرسل و
الثالث أن تعامل الناس معها قد تعتريه الأهواء
و المصالح...و تلك ميزة المرحلة
الأفقيّة للإسلام حيث العلماء ورثة الأنبياء
لكن أيّ علماء و أيّة أخلاق و من يحدّد
ذلك؟؟؟لا بدّ من توافق اجتماعيّ يتعاقد فيه
الجميع من دون أن يعدّ مقدّسا أبدا حتّى لا
يتّخذ وسيلة للتّسلّط و القهر و الاستبداد
باسم النّكوص و الرّجوع إلى الماضي...
أرى أنّ مقياس السّعي إلى المستقبل هو
المقياس الأسلم للارتقاء بالإنسانيّة .فكلّ ما
يرتقي بالحياة مادّيّا و أخلاقيّا هو الإسلام
مهما كان مصدره و مهما كان المكان الذي ينتسب
إليه و إن اختلفت تفاصيل العبادات و وقع
الانتقال من شريعة إلى شريعة يتقاتل النّاس من
أجلها و يرتكبون الجرائم بأسماء لا تليق
بالإسلام دين الله ذي الرّسالة المشتركة
العامّة التي تجمع البشر و لا تفرّق بينهم و
تبني صرح الأخلاق لا تهدمه و تتقدّم
بالإنسانيّة و لا تتأخّر بها و تضيف إليها و
لا تنقص..
المراجع=
(1) سورة المائدة : 3
(2) سورة آل عمران : 85
(3)
التّهانوي(محمد علي):موسوعة كشاف اصطلاحات
الفنون و العلوم ط1 مكتبة لبنان ناشرون 1996
ج1 ص178
(4)ابن منظور(أبو الفضل جمال الدّين):لسان
العرب ط 1 دار صادربيروت1410هـ ـ1990م مادة
سلم ج12 ص 293
(5)
لسان العرب ج 13 ص23 مادة أمن
(6) لسان العرب ج 8 ص176 مادة شرع
(7) سورة الجاثية : 18و تسمّى أيضا سورة
الشّريعة
(8)سورة البقرة: 213
(9)سورة آل عمران :110
(10) لسان العرب ج 13 ص 166 مادة دين
(11)التهانوي ج 1 ص 1019 مادة شريعة.
(12) التهانوي ج 1 ص 1018 مادة شريعة.
(13)
سورة آل عمران :19
*يقول
ابن خلدون "...أهل الشّريعة...هم
الأنبياء"مقدمة ابن خلدون ط دار العلم للجميع
ص 191.
(14) سورة البقرة : 136 .
(15) سورة يونس:72
(16)
سورة الذّاريات:36
(17)سورة البقرة:131ـ132
(18)سورة البقرة:133
(19)سورة
آل عمران:67
(20)سورة الأعراف:126
(21) سورة يونس:84
(22)سورة النمل:30-31
(23)سورة آل عمران:52
(24)التوحيدي(أبو
حيان): الإمتاع و المؤانسة ط 1 دار الجيل
بيروت 2003م ـ 1424هـ ج1ص57
Partager
|
|
انظر أيضا
|