لماذا لا تكون الشّرائع مقدّسة إلا بوجود الأنبياء و الرّسل؟ |
تمهيد لا بدّ منه:
اتّهمني بعض من قرأ مقالتي :"تجديد فهم الإسلام" بالكفر و
تبرّأ منّي بكذبة ملفقة تدّعي أنّني ماسوني بل منخرط في فرع
بنزرت إذ قال كبيرهم:
"
مدينة منزل جميل بريئة من هذا الرجل المدعو "محمد الهادي
الكعبوري" أستاذ عربية!!!!
هذا الرجل منخرط الجمعيات الماسونية
فرع بنزرت...
إنا لله و إنا إليه راجعون ... يبيع
دينه بعرض من الدنيا حقير...!!!!
الماسونية ضربة وحدة!!!! لا حول و لا
قوة إلا بالله ..."
حين قرأت هذا اللغو الكاذب حمدت الله على أنّ هذا الأفّاك
قد اعترف برجولتي على الأقلّ و أبقى عليها غير أنّني لست أدري
ما هو هذا العرض الحقير من الدنيا؟.اللهمّ إلا أن يكون مَن كتب
هذا الهراء قد نال منه نصيبا.و كأني به لم يقرأ حديثا مشهورا يحدّد
آية المنافق حين يكذب عليّ من دون أن يتبيّن . و لكنّ الذي
آلمني أشدّ الألم أن قال لي أحدهم إنني لم أحفظ من القرآن آية
و لم أركع إلى الله ركعة و لا أنا سجدت لربّي سجدة شأني في ذلك
شأن من يحيطون بي في الصّورة الملتقطة لشباب محبّين للخير
جاؤوا لإسعاد روّاد مركز الأمل لإعانة الأشخاص
القاصرين ذهنيا بمنزل جميل بل استكثر علي ابتسامي في
الصورة و كأنما ينبغي أن يكون رئيس الجمعيّة عبوسا قمطريرا
يدخل منظره على المعاقين و الزائرين التعاسة و البؤس.
و قد بان من وراء الحادثة الدّجل و سوء الطويّة و ضيق
الأفق من قبَل البعض...و عرفت من هذه الحادثة حبّ أغلب من دافع
عن شخصي و هاتفني مؤازرا مشجعا على الصّمود في الحقّ أو خاف
عليّ طالبا منّي الصّمت و الاكتفاء بما وصل إليه الأمر خوفا
عليّ من الأذيّة.و لكنّهم يعلمون أنّني عندما كتبت ما كتبت
كانت نيتي خالصة لله تعالى إذ كنت ساعيا إلى طلب الحقّ و لا
شيء غير الحق ما استطعت إلى ذلك سبيلا.و لا أكشف سرّا حين
أقول:"إنّ الغاية الحقيقيّة من وراء الزّوبعة هي أن أتخلى عن
إعمال عقلي:الثروة الوحيدة التي ملّكنيها الله في هذه الحياة
الدّنيا استجابة لدعوته عباده للتّأمّل و التّفكّر في قوله
"أفلا يعقلون؟"
إنّ عدم إعمال العقل شائن و التوسل بغير الله بائن ممن
اعترض على استنتاجاتي الشخصية التي ألهمنيها الله و وكّلني بها
دون غيري من الناس فهل أعترض على الله أن ملكنيها و كسانيها و
علقها بشخصي ...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
إنّ قيمة إعلاء الرّأس و عدم احتقار الذّات تلخّص ما أسعى
إليه من عزّة دعا إليها الله في قوله"و لله العزّة و لرسوله و
للمؤمنين"فالمؤمن الصّادق يرفع رأسه و لا يخشى في الله لومة
لائم خصوصا عندما يكون مقتنعا أنّه يتقدّم إلى الأمام خالص
النّيّة لله تعالى لا يرى ضيرا في أن تختلف أفكارنا و
تفسيراتنا لكلام الله الثريّ بالمعاني الدال على قدرته و حسن
تدبيره في جعل الناس مختلفين ليتعارفوا إذ لو شاء الله لجعل
الناس جميعا متشابهين و هو على ذلك قدير ليختلف المؤمن عن
الكافر و تظهر لذة الإيمان و ليحاسب الله الناس جميعا يوم
القيامة فهو أرحم منّا و لذلك جعل الآخرة للحساب.
المهمّ أنّ الزوبعة تهمّ موضوع قداسة الشّريعة.فكأنّي
بالقوم لم يقرأوا المقالة كاملة بل اجتزأوا منها نتفا شوّهت
مضمونها و قبّحت فكرتها و عزلتها عن إطارها ممّا اضطرّني إلى
التّوضيح و لذلك أقول:
أوصلني البحث و الاجتهاد
انطلاقا من المعنى اللغوي للشّريعة إلى أنّ المؤمن ينال منها
ما هو في حاجة إليه يراقبه في ذلك النبيّ المرسل و هو يسهر على
أخذه نصيبه من الماء الذي يحيي القلوب قبل الأجساد و لكنّ تلك
الميزة تفقد بعد ختم الرّسالات لأنّ المؤمنين قد فطموا فجاء
عصر جديد نضجت فيه البشريّة فلم يعد الوحي يأتي من السّماء و
لم يعد النبيّ يحرص على إيصال أتباعه إلى الماء(=الشريعة)
ليأخذوا نصيبهم منها و لا هو يرقبهم.بل أصبحوا يسعون وحدهم من
بعده.و يخوضون الماء بمفردهم لا يهديهم سوى ما بقي
لديهم و ترسّب من الخبرة و المعرفة أو ما استنبطوه بكدّ الفكر
و إعمال الرّويّة لا فرق بين أفرادهم في ذلك و لا ميزة للواحد منهم على الآخر إلا إذا
أراد أن يستثمره في أمر ما ,فصفة
القداسة
قد رفعت بالبعد و تقادم الزّمن.زد على ذلك أنّها
صفة لله تعالى الذي من أسمائه القدّوس كما أنّه من الشّائع
نسبة الشرائع إلى الأنبياء و الرّسل و غيرهم من البشر إذ نقول
شريعة حمورابي و شريعة موسى و عيسى و محمد...كما يمكن نسبتها
إلى المكان إيجابا و سلبا فنقول شريعة الغاب للذمّ عندما تقلل
اللغة من شأنها و هذه الصّفة الأخيرة زادت من تمسّكي بما ذهبت
إليه في شأنها...المهمّ أنّني لا أنكر قداسة
الشريعة في المطلق و إنّما أرى أنّها لا تكون مقدّسة إلاّ
بوجود الأنبياء و الرّسل الكرام و ذلك لثلاثة أسباب سأتوسّع في
بيانها و توضيحها في ما يلي :
....و أوّل هذه الأسباب يتمثّل في تعاقب الشرائع فشرائع
الأنبياء كلّها من الإسلام و كلّها مقدّسة في زمانها لكنّ
بعضها يلغي بعضا لأنّ البشرية تقدّمت قليلا فلم يعد التشريع
القديم مناسبا لمشارب القوم فيأتي الله بنبيّ آخر و تشريع آخر
ينسخ القديم و يلغيه .و مثال ذلك مسألة الزّواج فآدم تزوّج
حوّاء و أبناؤه تزوّج بعضهم بعضا و تلك شريعتهم و هي من
الإسلام إسلام آدم فلمّا كثرت البشريّة حرّم زواج الإخوة ثم
الخالات و العمّات ثمّ زوجات الأب و أزواج الأمّ ثمّ الجمع بين
الأختين إلى أن جاء قول الله تعالى في القرآن الكريم
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ
الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ
وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي
حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ
فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ
مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
}النساء23 بل منّا من يستقذر التّفكير في الزواج ببنت صديقه أو
يمتنع عن الزواج إن كان سيعقب ابنا معاقا أو بنتا مشوهة.
وأمّا مسألة الذكاة فأمر معروف شائع إذ كانت التضحية
بالإنسان أمرا مشروعا لدى البشر بل كاد أن يمارسه سيّدنا
إبراهيم مع ابنه عليهما السّلام لولا أن فداه الله بذبح عظيم
فأصبح الحيوان بديلا عن الإنسان قربانا.
و أمّا الأطعمة فقد كانت كلّها مباحة ثمّ بدأ التحريم و من
ذلك ما حرّمه إسرائيل على نفسه .فحرّم على الذين هادوا كل ذي
ظفر ومن البقر والغنم حرمت عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما
و الحوايا و ما اختلط بعظم
و هو من شريعتهم فحرمت الشريعة الموسوية كل حيوان لا يكون
ظفره مشقوقا و كلّ حيوان غير مجترّ "كلّ حيوان ذي ظفر غير
مشقوق و كل ما لا يجترّ فهو نجس لكم كل من مسه يكون نجسا" فهم
يحرمون الأرنب و الخنزير و المسلمون يبيحون الأرنب و يحرمون
الخنزير مثلهم إلى جانب الميتة و ما أهلّ به لغير الله.
و كذلك الأشربة فقد كانت كلها مباحة حتى الدّم و الخمر
ثمّ شرّع اجتناب هذا الأخير بالتدريج بعدما كان بعض الصّحابة
رضوان الله عليهم يصلّون مخمورين فقد أخرج الترميذي عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ
صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا
فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ
مِنَّا وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ".
و كذلك أمر العبادة من صلاة و صيام و حجّ فهي تختلف من
شريعة إلى أخرى
في أزمنتها و تواترها و أقوالها و حركاتها و سكناتها
بل المؤكّد أنّ الصّلاة تطوّرت عندنا من تأمّل بدون حركات إلى
صلاتين في اليوم واحدة وقت الشروق و أخرى وقت الغروب ثمّ
أصبحت الصلوات خمسا كلّ واحدة منها بركعتين فحسب ثمّ لمّا حلّ
الرسول صلى الله عليه و سلم بالمدينة زيد فيها فأصبحت على ما
هي عليه اليوم في عدد ركعاتها أي بين ركعتين و أربع ما عدا وقت
السّفر.
و لا يختلف أمر الصّيام عن الصلاة في الخضوع لهذا المبدإ
مبدإ التغير و التّطوّر و النّسخ فاليهود يصومون عدة أيام
متفرقة فى السنة من أهمّها صوم يوم الغفران (יוֹם
כִּפּוּר)
حيث يمتنع اليهود الصائمون فى هذا اليوم عن الشراب والأكل
والجماع وارتداء الأحذية لمدة 25 ساعة من غروب الشمس فى اليوم
السابق حتى غروب الشمس فى يوم الصيام ، بينما تستغرق أيام
الصوم الأخرى من الشروق إلى الغروب ولا تتضمن كل التحريمات مثل
تحريم ارتداء الأحذية. وفى الماضى كان الصائمون يرتدون الخيش
ويضعون الرماد على رؤوسهم تعبيرًا عن الحزن . ويصوم اليهود
أيامًا اضافية ( أيام الاثنين والخميس ) لأنها الأيام التى
تقرأ فيها التوراة فى المعبد
.
و أما المسيحيون فيصومون مدة اثنتي عشرة ساعة و لا يفطرون
إلا على الأطعمة النباتية و يكثرون من التعبد و الاستغفار و
منهم من يصوم مدة أطول. و أمّا الصيام في الإسلام فقد كان
مرتبطا بيوم عاشوراء و الأيّام البيض في مكة ثمّ شرّع صيام
رمضان فكان المسلم مخيّرا بين أن يصوم أو يدفع بديلا عن ذلك
طعاما إن كان ذا مال ثمّ أصبح الصيام يبدأ من لحظة نوم الصّائم
إلى غروب شمس اليوم التالي فلا يفيق للسّحور بل يواصل الصّيام
إلى أن وجد بعض الصّحابة من ذلك مشقة و عذابا فتطوّر التّشريع
فصار النّاس يبدأون صيامهم من تبين الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر إلى غروب شمس اليوم التالي و إن ناموا ثمّ
نهضوا قبل ذلك و مارسوا الجنس و أكلوا و شربوا.
و كذلك الأمر بالنّسبة إلى الحجّ فقد تغير عما كان
عليه في عهد إبراهيم عليه السلام.و لأكتف بهذه الأمثلة حتى لا
أطيل أكثر.فمحصّلة الأمر من كلّ ما مرّ أنّ كلّ الشّرائع
السّابقة ألغى بعضها بعضا و كمّل بعضها بعضا لأنّ قداستها
مربوطة بنزول الوحي في حياة الأنبياء و الرّسل و ما بقي منها و
ترسّب هو حسن الخلق و ما خبر النّاس نفعه للبشريّة فطوّر
الحياة و ارتقى بها.
أمّا ثاني الأسباب فيتمثل في أنّ أفهام النّاس
قاصرة عن إدراك ما أراد المشرع بالدقة التي بلغ بها سيدنا
جبريل الشريعة للأنبياء و الرسل.فلغات الوحي مختلفة من ملّة
إلى آخرى.لن أخوض في مسألة عالجها دارسو القرآن قديما وحديثا
تتمثّل في لغة اللوح المحفوظ و هل ما بلّغ للرسل هو نفسه ما
عناه المشرع الأول الله تعالى.نحن باعتبارنا مسلمين لا نشك في
أنّ جبريل عليه السلام قد بلّغ ما أراد الله تبليغا دقيقا
شافيا كافيا ألقاه على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم
شأنه شأن كل الأنبياء و الرّسل بأبلغ عبارة جعلت المشركين
يذعنون و يسلّمون بما جاءت به الأنبياء و الرسل و جعلت
المؤمنين يقتنعون بما شرع الله لهم فإن ألبس عليهم أمر أو غمضت
عليهم مسألة كان الرسول أو النبي بين ظهرانيهم يوضح و يوجه و
ينصح و يفسر كلا على حسب فهمه و مقداره من العلم و العقل و
المعرفة و الثقافة و التجربة و السن و المهنة و الأقدمية في
دخول هذا الدين الجديد و الانتماء إلى البادية أو المدينة و
القرابة من الرسول صلى الله عليه و سلم و الملازمة اللصيقة له
.كان ذلك في زمن الأنبياء و الرسل حيث تلقى كل واحد منهم
التشريعات من معينها الصافي و منبعها الأول و كانت وسيلة ذلك
اللغة. لكن اللغة الشّفوية وقع تناقلها و توارثها بالرّواية و
الحفظ ثمّ قيدت و كتبت في صحف تعاورتها الأكف و تناقلتها
الأيدي و حبرت في الأوراق أو فوق العظام و الجلود و غيرها من
الوسائل فضاع منها ما ضاع و حرّف ما حرّف و مع ذلك وصل إلينا
جزء كبير ممّا ورث الأتباع عن الحواريين و الصّحابة فيه الغثّ
و السّمين فصُنّفت النّصوص بين صحيح و موضوع و غريب و ...ثمّ
درست فاختلف فيها المفسّرون و تقاتل المتقاتلون و تصارع
المتصارعون لأن لغات الكتب المقدسة اختلفت عند نقلها و ترجمتها
فأدخل ذلك الضيم على بعضها .و لا تختلف اللغة العربية عن غيرها
من اللغات لأنها ليست بدعا في هذه المسألة فكتب اللغة و
التاريخ تذكر اختلاف لغات القبائل و لهجاتها كما تذكر لحن غير
العرب في ما يقرأون .فخاف المسلمون على الإرث اللغوي العظيم
الذي ورثوه فكتبوه و كان ما كتبوه في البداية غير معجم و لا
منته بعلامات الإعراب فوقع الاختلاف و التّصحيف و الخطأ .و في
أوقات الحروب و الفتن و بعد ازدهار الوراقة و النّسخ أحرق
الكثير منها و أغرق البعض الآخر في الأنهار و طمر البعض الآخر
في الأرض أو تحت البنايات المهدومة أو المهجورة .و ما بقي منها
أكله العثّ و خرّبه و أنقص من أطرافه فلقي المحققون عسرا في
ترميم بعضها و بذلوا جهدا في إعادة صياغة ما غمض منها .و هذا
جعل جزءا من التراث يضيع و لا يزال الكثير منه في المخازن
مطمورا.
و أمّا مسألة الدلالة فهي باب عظيم تختلف فيه الأفهام و
تتلون و تتسع لتعدد المعاني و اختلاف المقاصد وعدم استواء
المفسرين في المعرفة و الإدراك و قوة الذاكرة و سرعة البديهة و
ذكاء الفؤاد.
هذا الكلام يصدق على العلماء و المتخصصين في تفسير النصوص
و فهم الكلام و إدراك الدّلالة و المغزى فما بالك بمن يتصدى
لمعالجتها و فهمها ممن لا علم له و لا معرفة و لا ذكاء و لا
بديهة و لا بعد نظر ممّن لا يعرف النحو و الصرف أو لا يفرق بين
الحقيقة والمجاز أو لا يغوص في القواميس لمعرفة تطوّر المعاني
و الدّلالات أو يضع الكلم في غير موضعه أو يصل إلى نتائج
تأباها المقدّمات أو يفرض على النّصّ معاني يريد أن يصل إليها
هو.
و إن سلمنا بأنه يفهم على أحسن ما يكون الفهم و يدرك على أحسن
ما يكون الإدراك و يعالج المسائل على أحسن ما يكون العلاج
فإنّ فهمه و إدراكه و علاجه للمسائل سيكون قاصرا عن إدراك ما
يريده المشرّع الأول و تلك طبيعة الإنسان و لا مراء في
ذلك.فكيف نمنع من له من الذّكاء و المعرفة باللغة نصيب أن يدلي
بدلوه فيجتهد و كيف نسمح لأنفسنا باحتكار الفهم و المعرفة
فندّعي امتلاك الحقيقة في حين نسفه رأي من له حجة و برهان و
بعد نظر.ثمّ كيف يعقل أن نفصل بين النّصّ و العقل و الحال أنّه
لا يمكن عزل اللغة عن التّفكير لأنّهما وجهان من عملة
واحدة.فكيف نفهم النّصّ إذن ما دمنا لا نسلّط عليه نور
الفكر؟؟؟ و نتيجة لذلك أرى أنّه لا يحقّ لأحد تكليس فهمه و
تأبيده حتّى لا يكون دكتاتورا في هذا المجال لأنّه مهما بلغ
فهمنا فليس ذلك سوى محاولة مؤقّتة تحكمها ظروف الزّمان و
المكان و الثّقافة فالكمال لله تعالى ما دام هو وحده يعرف
أسرار ما في اللوح المحفوظ بلغها سيدنا جبريل عليه السلام فكان
ترجمانا بالغة العربية ليبلغها رسولنا محمد صلى الله عليه و
سلم إلى قومه و لذلك لم يجدوا عسرا في فهمها و العمل بها في
حين نحن نجد عنتا في ذلك ما دمنا لا نفقه كلام الله فنقرأه
قراءة قاصرة ناقصة مهما بلغنا من العلم لأنه شتان ما بين
القرآن الشفوي المنتشر في الفضاء بصوت الرسول محمد صلى الله
عليه و سلم و بين القرآن المكتوب المقيد في كتاب الثابت بين
دفتيه.فكيف ندعي امتلاك ناصية الكلام و لا نعتبر ما وصلنا إليه
محاولة للفهم نسمح لغيرنا أن يحاول مثلنا دون ادعاء للعصمة و
الكلام و امتلاك الحقيقة التي يريد أن يؤبّدها الأسلاف و
يفرضوها على غيرهم فرضا.
و أمّا ثالث الأسباب فيتمثّل في أنّ تعامل النّاس
مع الشّرائع قد تعتريه المصالح و الأهواء .و ذلك لعمري أمر
واضح جليّ في تشريع القوانين الوضعية و ذلك لأنّ المتمكّنين و
المتسلّطين على رقاب النّاس سواء كان ذلك الأمر طوعا أو كرها
بالإنتخابات أو الغلبة و القهر.و كذلك الشّأن بالنسبة للملل و
النحل الأخرى السماوية منها و البشرية فقد حدّثنا التّاريخ أنّ
أهلها استعملوها و وظّفوها في كثير من المراحل التّاريخيّة
لإخضاع الآخرين في ما يسمّى بالحروب الدّينيّة التي لم تخل من
إخضاع الشعوب المغلوبة سواء في ذلك اليهود و المسيحيون و
المسلمون في بعض مراحل نشرهم لمعتقداتهم أو ضنهم بها و منعها
عن غيرهم.
فاليهود يعدّون أنفسهم شعب الله المختار ويميّزون أنفسهم
عن غيرهم و يعتبرونهم أمّيّين أي قوما لا كتاب مقدّس لهم
يقرأون فيه لأنهم يرونهم أقلّ منهم قيمة فأنبياء غيرهم و
شرائعهم و دياناتهم على غير الحقّ لأنّهم خالفوا شريعة موسى
عليه السّلام. و ما الصّهيونيّة إلاّ مشروع سياسيّ استعماريّ
يلبس لبوس الدّين و يوظّفه و يستغلّه للاستحواذ على ثروات
الشّعوب. و كذلك المسيحيون في حروبهم الصّليبيّة القديمة و
الحديثة و حروبهم في ما بينهم سواء في ذلك الكاثوليك و
البروتستانت. و لا يخفى على أحد أنّ الاستعمار الغربيّ في كلّ
مراحله قد استعمل العقيدة سلاحا احتلّ به الشعوب الأخرى في
إفريقيا و أمريكا و آسيا مدّعيا أنّه جاء لإنقاذ أرواحهم و
السّموّ بهم في سلّم الحضارة الغربية ذات الأصول اليهودية
المسيحيّة في حين أنّ عيونهم مسلّطة على ما يملكون من
ثروات.فتمّ إلهاء الشعوب عن حقوقها بالدّين بجعلهم يخضعون
للكنيسة المتحالفة مع الإقطاع و الأنظمة المتحكّمة في الرّقاب.
و كذلك الأمر مع المسلمين فقد جعل الأمويون قرشية
الخليفة شرطا من شروط الإمامة. بينما اعتبر غيرهم القرابة من
الرسول صلى الله عليه و سلّم شرطا لتوارث الحكم كما هو الشّأن
في بعض الأنظمة الملكية الموجودة.و أمّا في ما يخصّ المسألة
الماليّة فحين انتشر الإسلام بين فلاّحي ما بين النّهرين أضيفت
إلى الجزية الخراج حتى على من أسلموا و هي ضريبة زائدة على
الزّكاة التي يدفعها المسلم حين يبلغ ماله حدّ النّصاب.و هذه
إضافة من عمر بن الخطّاب رضي الله عنه و من جاؤوا بعده ممّن
حكم المسلمين على الأراضي المفتوحة عنوة و في ذلك مصلحة و خير
عميم على بيت مال المسلمين و لكنّه تشريع جديد و اجتهاد من عمر
رضي الله عنه لم يكن موجودا في ما شرع الرّسول صلى الله عليه و
سلّم لأمته لأنّه لم يكن موجودا حينئذ.
و ما الحيل الفقهيّة سوى تخريجات ذكيّة لإرضاء أهواء
الحكّام و الملوك و أصحاب الحاجات ليبدوا متناغمين مع الدّين و
التّشريعات.و حين نقرأ أو نسمع إفتاءات متناقضة أحيانا فإنّ
هذا يزيدنا يقينا أنّ مصدرها ليس السّماء و إنّما هي قد ألبست
لبوس الأرض و القصور البشريّ و لا دخل للشّريعة في ذلك لأنّ
مبلغها يراجعه المولى تعالى قبل أو بعد تشريعها بالنّسخ و
التّعديل. في حين أنّ ما يفعله المشرّع القانونيّ أو الفقيه
الدّينيّ لا يأتيه الوحي و إنّما هو مجرّد إعمال للرّأي في
مسألة جديدة يحاول أن يوجد بينها و بين النّصوص الموروثة صلة
ليسقط مسائلها على الواقع المتغيّر الذي يمكن أن يأتيه الباطل
من بين يديه و من خلفه و إن تحرّى في الكثير منها حسن النيّة و
السّعي إلى ما فيه نفع للآخرين.و لقد كان علماء الإسلام واعين
بأنّه لا يمكنهم تعويض المشرّع الأوّل و لذلك يختمون
اجتهاداتهم بقولهم:" و الله أعلم".
من المعروف المتداول في كتب نقد الحديث خصوصا اعتبارهم
السياسة و أهواء السياسيين و أصحاب المصالح سببا مهمّا في
وضعها و تحريفها لتتماشى و غاياتهم و من ذلك أنّ الأمويين
توسّلوا ببعض رواة الحديث ليضمنوا عدم تشويش المخالفين و
المعارضين السّياسيين لهم في خطبة الجمعة فقالوا:"إذا قلت
لصاحبك أنصت و الإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت و من لغا فلا
جمعة له" لأنّ أحاديث صحيحة أخرى تؤكّد خلاف ذلك.فعمر بن
الخطّاب في إحدى خطب الجمعة يقول لمن تأخّر مؤنّبا في حوار
بينهما لأنه توضّأ و لم يغتسل يومئذ في حين أنّ رسول الله صلى
الله عليه و سلّم كان يأمرهم بالغسل يوم الجمعة.فانظر كيف
حاوره و هو على المنبر بينما تمنع الرّواية الأخرى مثل ذلك و
تجعله عملا مبطلا للصّلاة.
زد على ذلك مسألة لاحظتها في تعامل المفسّرين مع النّصوص
المرتبطة بالتّراث تتمثّل في اختيار المعاني المتّصلة بالكلمات
بما يتماشى و العقلية السّائدة و متطلّبات المجتمع الذّكوري
المهيمن بقيمه و مثله المُقصية للهامشيّين من عبيد و نساء و
فقراء و أعداء سياسيين أو مختلفين في أصل النّشأة و اللّون و
الدّين. و من ذلك اختيار المفسّرين في ما يخصّ ضرب المرأة
المعنى المرتبط بالضرب الحقيقيّ بالعصا و غيرها من وسائل
الضّرب و إغفالهم لأحد معاني الضّرب المتمثّل في ممارسة الجنس
الموجود في لسان العرب ج1 ص 545 حيث قال ابن منظور:" و ضرب
الفحل الناقة يضربها ضرابا :نكحها. فبالرّغم من أنّ هذا المعنى
هو المعنى الأصليّ الأقدم لارتباطه بحياة البداوة و الصّحراء و
تكاثر الإبل .فقد ضربوا عنه صفحا .و أظنّهم تعمّدوا ذلك لمكانة
المرأة الدّونيّة التي أرادوا تكريسها . و قد زادني يقينا
تسميتنا في الدّارجة التّونسية الحشيّة التي يمارس فوقها
الأزواج الجنس بـ"المضرّبة" و لكنّ ذلك المعنى مسكوت عنه في
كتب التّفسير المطبوعة المتداولة بين النّاس على الأقلّ.و كذلك
الأمر في مسألة فهم الإسلام كما وضحت ذلك في مقالتي موضوع
الخلاف .كما يمكن قول ذلك في خصوص معنى الخليفة و الإنسان و
الشّيطان و القراءة و غيرها من المفاهيم التي يحسن تمحيصها
بالرّجوع إلى المسكوت عنه من المعاني المدفونة في كتب اللغة
التي منع الإلف و الرّأي الواحد من تجاوزها إلى معان جديدة
مختلفة عن المعروف المتداول بين النّاس. و بناء على ما سبق
فالمسكوت عنه في اللغة موضوع على قدر كبير من الخطورة سيفتح
بابا جديدا في فهم النّصوص عموما و فهم النّصوص التّأسيسية
منها على وجه الخصوص بعيدا عن اتّهام الآخرين و تسلّط الأهواء
و تحكّم المصالح التي ما فتئت تؤبّد الموجود و تكرّس القديم و
لا تروم عنه محيدا . و هذا سرّ من أسرار بقائنا متخلّفين عن
ركب الحضارة المتقدّم باطّراد مما جعلنا نحلم ىالعودة إلى
العصور الذّهبيّة السّابقة و لا نعيش عصور الذّرّة و النانو و
الكمبيوتر و غزو الفضاء و احتلال الأجواء.
إنّ شأن الحرّيّة عندنا شأن عجيب.فقد بقي الاستعباد و
شراء النّساء و الرّجال أمرا مباحا و لا يزال في حين بدأ
الرسول محمد صلى الله عليه و سلّم حملة لتحرير العبيد و الإماء
بأمر من الله حين ربطت بعض الكفّارات بتحريرهم.و بالرّغم من
جلجلة صوت عمر بن الخطّاب الذي لا يزال مدوّيا:"متى استعبدتم
النّاس و قد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا " و بالرّغم من الإعلان
العالميّ لحقوق الإنسان منذ سنة 1789 و بالرّغم من إلغاء
الرّقّ بتونس منذ سنة 1846 فإنّنا لا نزال نسمع حديثا عن
العبوديّة و شكّا في وجوب الدّفاع عن الحرّيّة دفاعا مستميتا
لأنّنا لا نريد للإنسانيّة أن تبلغ سنّ الرّشد و لأنّ لنا
مصلحة في بقائها كذلك ليسهل استغلال النّاس و التّحكّم في
مصائرهم بحكم الحاجة و قلّة ذات اليد و صفة الشّرّ المتأصّلة
في الإنسان .
إنّ التسلّط و مسك زمام الأمور قد دفع أهل السياسة و
القوى المالكة للثروة إلى إلهاء الشّعوب عن حقوقها باستثمار
الدّين ليبقوا في مواضعهم لأنّ الحراك الاجتماعيّ يدكّ العروش
و يزحزح أصحاب المصالح عن أماكنهم.
و ما تفسير النّصوص الدّينية تفسيرا واحدا و الترويج لفهم
محدد لها لا تفسير غيره و لا فهم إلاه سوى باب من أبواب العنف
و القهر و التّسلّط باسم الدّين الذي لم يكن سوى مساعد للإنسان
على بلوغ سنّ النضج لتعمير الكون و لنكون متميّزين عن بعضنا و
ليكون الله علينا رقيبا يحاسبنا يوم القيامة دون أن يعطي بعضنا
للبعض الآخر صكوك غفران أو شارات إدانة و إهانة فالله هو الذي
يقلّب القلوب و يصرف عمّا لا يريد فالله هو الذي يوحي إلى
الرّسول بتحديد الكفّار و المنافقين و لا أحد مسموح له عند
غيابه بمعرفتهم لانقطاع الوحي و إمكان الخطأ و عدم وجود
الرّابط الذي يربطنا باستدراك الخطأ قبل وقوعه و تلك مسألة لم
تجد لها كلّ التّشريعات بعد انقطاع الوحي خلا المراهنة على نضج
البشريّة و إدراك معنى الخير.و لكنّ البشريّة تدرج رويدا رويدا
في طفولتها و لعلّ هذه الطّفولة و التوحّش و الخوف من الآخر لا
تطول.
و بناء على ما تقدّم
فإنّ الشريعة لا يمكن أن تكون مقدّسة بعد ختام النبوات و وراثة
العلماء لهم بحكم تعاقبها و عدم ثباتها لأنهم يستدرجون
البشريّة إلى قبول فكرة التطوير و عدم الثبات زد على ذلك أنّهم
يساهمون في تبليغ الرسالة التي تلقوها من منابعها الأولى و
بلّغوها و أفهموها لذوي العقول القاصرة و الأفهام المختلفة و
الأمزجة المتقلّبة و إلى جانب ذلك و تبعا لما سبق فإنّ تعامل
النّاس معها قد تعتريه المصالح و الأهواء و لذلك أقول :هدانا الله إلى المشاركة الايجابيّة مع بقيّة
البرايا
لما فيه خير البشريّة قصد بلوغ تمام مكارم الأخلاق التي بعث
الأنبياء و الرّسل
من أجلها للسّموّ بالإنسانيّة.
Partager
|
|
|