ثورة
الرّأسمالية التونسية |
عندما
قامت الثورة التونسية الشعبية باركها الجميع و أراد
الكثير ركوب الموجة و حُلّت عقدة الشّعب. و سمعنا حديثا كثيرا
في محاسنها و مساوئها و اختلف النّاظرون حتى في
تصنيفها.أهي ثورة أم هبّة أم انتفاضة أم هوجة أم غيرها؟ و
اختُلف في رموزها أهو الشهيد أم القتيل أم المنتحر
أم حارق نفسه محمد البوعزيزي أم غيره؟ حتى اسمها في صورة
الاتّفاق في كونها ثورة وقع الاختلاف فيه فواحد يقول هي ثورة الياسمين
وآخر يردد هي
ثورة الكرامة و ثالث ينعتها بثورة الجياع و رابع يسميها ثورة الشباب
و خامس لا يريد بديلا عن تسميتها بثورة العاطلين
و هلمّ جرّا.بينما اتفق الثائرون على إقصاء الرئيس الهارب بن
علي و عائلة الطرابلسية مثلما اتّفقوا على إقصاء التّجمّع
الدّستوري الدّيمقراطيّ و حلّه
تماما مثلما اتفق المحلّلون على أنّها ثورة بلا رأس.و أنا
أعترض على هذا التوصيف التّهجينيّ الذي لا يقرأ الثورة
التونسيّة قراءة موضوعيّة واعية فهل يعقل أن ينتفض جسد و
يتحرّك كيان بلا رأس؟؟؟؟
لنقرأ ما حصل بطريقة أدقّ و أكثر موضوعية و تجرّدا
في ضوء الواقع و الوقائع المعيشة.فما حدث أعقد ممّا
يتصوّره المواطن العاديّ,غير المطّلع على الأسرار و
الخفايا.و لعلّ المستقبل و وثائق الأرشيف سوف ينبآننا بالخبر
اليقين ؟؟!!.و لكنّ ذلك لا يمنعني من
تعقّل الأحداث و قراءة ما وقع قراءة خاصّة لأنني أنطلق
من مسلّمة مفادها أنّ كل قراءة هي قاصرة وآنيّة و ناقصة
بالضّرورة بل يجب أن تكون كذلك مهما ادّعت النزاهة و
الموضوعية و الصّدق.
فلأنطلق في التّحليل من أمر مفاده أنّ الصّراع
الأساسيّ واقع بين شقّين أو طرفين من أطراف الرّأسماليّة التونسيّة
و لا أمارِينّ في أنّ الشّعب التونسيّ المقهور هو من قام
بالثّورة و أنجزها و اكتوى بنارها.
لأبسّط الأمر أكثر
فأقول!
لم يترك الرّأسماليّون الجدد
المتغوّلون المتمثّلون في الرئيس المخلوع بن علي و الطرابلسية و من يدور في فلكهم ممّن
ناصرهم و استفاد من نفوذهم للرّأسماليّين التقليديين
المفترَسين سواء كانوا تونسيين أو أجانب غير الفتات لأنّهم
استفادوا مباشرة من الأموال الطّائلة و النّفوذ الواسع و المكانة
المعتبرة.و
افتكّوا المشاريع أو شاركوا فيها عنوة و اقتسموا الأرباح و
الأفكار و صدّروا و ورّدوا و صادروا و نهبوا و أوردوا النّاس
غياهب السّجون و الرّدى...و تضرّر المستهلكون التّقليديون و
استنزفوا و بلغ الحزّ العظم. و لا بدّ لهذه الأخيرة من أن
تدافع عن نفسها للعيش . و كيف لا تدافع بروليتاريا الرأسماليّة
التونسيّة و شركائها عن مصالحها و هي متضرّرة؟ ...و لذلك ساندت الثّورة
التي كان الشّعب التونسيّ المستنزف أصلا وقودها أشعلها و اكتوى
بنارها في نفس الوقت.أحرقت أملاكه و تضررت مصالحه و زاد طابور
العاطلين طولا و عرضا بفقدان الكثير لوظائفهم .و استفاد الكثير
منهم بما نهبوا و غنموا مما طالته أيديهم.
حين انهارت عصابة الطّبقة الرّأسماليّة المتغوّلة أشعلت
البلد و أحرقت كلّ شيء و أخذت ما قدرت على حمله من غال و
نفيس حتّى لا تبقي للرّأسماليّة المتضرّرة شيئا...و لو قدرت
لأحرقته كما أحرقت رمز الثورة محمّد البوعزيزي و أمثاله من الشّبّان
اليائسين قهرا و ظلما...
إنّ الرّأسماليّة التّونسيّة تدافع عن نفسها
بشراسة و تستردّ قيمها و مكانتها المهدورة بإصرار ,أليست جزءا من
الرّأسماليّة العالميّة التي تصادق من يحقّق لها الرّبح و
الأمان .أ لم يقل أحد أقطاب الرّأسماليّة المنتصرة
:"الرّأسماليّ خوّاف جبان خبأ فلوسه و ركش"و الآن آن
الأوان ليخرج إلى النور و يساهم في الثورة بالفعل؟.
و توجد أدلّة كثيرة على ما
أقول...فالرّأسماليّة التونسيّة و الأجنبيّة المتضرّرة
مستبشرة بالتّغيير الحاصل لأنّ المناخ الاقتصاديّ انتعش و
تنفّس الصّعداء بعدما كان مخنوقا. و لذلك استقبلتهم القنوات
التلفزية شأنهم شأن من تبنّى الثورة و باركها و ساهم في
مناصرتها لتحليل الوضع و الإدلاء بدلوهم و الإعلان عن رغبتهم
في التشغيل الفوري للعاطلين.
لنأخذ مثالا قناة حنّبعل
التونسية الخاصة:
ففيها وقع و لأوّل مرّة إرغام أحد
القضاة المعروفين على الانسحاب لأنّه يمثّل ركنا من أركان
تثبيت النّظام السّابق و قهره للمناوئين بإعدامهم و الزّجّ بهم
في غياهب السّجون.كما وقع التّشويش على بثّها أثناء اللقاء الأول مع حمة الهمّامي زعيم حزب العمّال الشّيوعي التّونسيّ .ثمّ قُطع
البثّ لمدّة أربع ساعات و اتُّهم صاحبها الثريّ
بالخيانة العظمى و اعتقل مع ابنه المحامي مدّة من الزّمن و
لمّا
رفعت عنه التّهمة عاد إلى قناته في احتفال انتصاري بهيج .
لقد عوقبت القناة و اتهم صاحبها بما اتهم به لأنّها صارت "صوت
الشّعب".إنّ الاتّهام الحقيقيّ ليس اتّهاما بالخيانة العظمى
للوطن و إنّما هو اتهام بـ التّخلّي عن الطّبقة الاجتماعيّة
التي ينتمي إليها و يمثّلها و يدافع عن مصالحها فهو ثريّ يملك
قناة تلفزيّة ناجحة رأس مالها بعشرات المليارات.و بما أنّه
استقبل غريم هذه الطّبقة و رمزها زعيم حزب العمال الشيوعي
التونسي العدو اللدود للرّأسماليّة فقد وجب تنبيهه و ردعه
ليعود إلى الجادّة و سواء السّبيل و يستقبل أقطاب
الصًّناعة و التجارة التّونسية الذين لا يوالون الطّبقة
الرّأسماليّة المتغوّلة التي ظهرت فجأة ثمّ أزيحت من
السّاحة لما أوقعت من أضرار فادحة بالرّأسماليّة التونسيّة
الوطنيّة و الأجنبيّة!!.
إنّ خصوصية الانقلاب التونسيّ
الذي وقع و الذي حار الكثير في تفسيره تتمثّل في أنّ ما حصل لم
تقم به البروليتاريا التقليديّة للإطاحة بالرّسماليّة
التقليدية. و إنّما وقع الانقلاب في صلب الطبقة الرّأسمالية
التي انقسمت إلى قسمين متعاديين .فالرأسمالية المتغوّلة و
مناصروها لم تترك شيئا للرّأسمالية المستضعفة الخائفة
على رأسمالها و أفكارها.فهربت هذه الرأسمالية بمالها و أفكارها
إلى الخارج أو هي لم تساهم كما يجب في الاقتصاد أو هي صمدت و
رزحت تحت وقر الوضع فأطالت أمد انطلاق الثورة الشعبية أو هي
ساهمت في زيادة تفقير الطبقة البروليتارية فأخذت مالها و
شغّلتها بأرخص الأسوام و أغلقت أبوابها في وجه جحافل
الشباب و غيرهم و استفادت من آليات تشغيلهم.فساهمت دون أن تدري
في احتقان العاطلين و المقهورين فثاروا على وضعهم .و كان الطقس
مواتيا كل المواتاة لنجاح الثورة فكان
لها الظَفر هذا فضلا عن الإصرار و الصدق و التضحية في سبيل نيل
المنى.
و إجمالا أقول إنّ الثّورة
التونسية التي قام بها الشباب و المقهورون و الجياع من أجل
الكرامة و الحرية و إعلاء الرأس قد حررت التونسيّ من الخوف و
فتحت الأفواه المغلقة و فتقت المواهب المكبوتة و عرفت بها لكنّ الخوف كلّ الخوف أن لا يحصل
الثّائرون إلا على أقلّ مما طمحوا إليه
و سعوا من أجله ماديا فتجهض آمالهم و توأد أحلامهم بالتّقادم و كرّ
الأيّام .و إنّ إيماني لراسخ أنّ الثورة فتحت عهدا جديدا و
أنّها أعادتنا إلى الحياة و الحضارة و أشعرتنا بالعزّة و
الكرامة الإنسانية.
و إنّي لأرى أنّه بعد زوال فورة الغضب بدأ بعض العقلاء
في إعادة النّظر و تحليل الأمور و إعادة تقييم الوضع إذ لا بدّ
من تأليف يتمثل في قبول الجميع لبعضهم في إطار الرّأسمالية
الوطنية التي تنفّست الصّعداء بعد أن يزول الغيظ و
الغضب.فالإقصاء أطروحة تضرر منها القوميون و الإسلاميون و
الشّيوعيون في السابق ليخلو الجوّ للرأسماليّة المتغوّلة,و أمّا النّقيضة فتتمثّل في الإقصاء المضادّ
لهذه الأخيرة التي عاضدها التّجمّع
الدّستوريّ الدّيمقراطيّ و وقع في فخّها و سكت عن جرائمها.و
لا بدّ من تأليفيّة يرتضيها أفراد الشعب التونسيّ ليقبل الجميع
بعضهم بعضا فقد تغيّر الوضع كثيرا بل أقول انقلب رأسا على عقب و
لا بدّ للحياة من أن تستمرّ بشرط أن تكون أفضل مما كانت عليه و
أن يلقى كلّ من أخطأ ما يستحق في إطار القانون دون غلّ أو تشفّ
حتّى لا يكون الشّعب التّونسيّ قد بذل دمه و أبناءه في سبيل
هذه الطبقة الرأسماليّة فالحذرَ الحذرَ من أن تتغوّل و نعود
إلى نقطة الصّفر و ضربة البداية.
الأستاذ محمد الهادي الكعبوريkaabouri@gmail.com
Partager
|
|
|