تقبّل موت حاكم قرطاج= |
أرى أنّ المجتمع
التّونسيّ قد تجاوز مرحلة الخطر و مرّ إلى برّ الأمان بعدما
أشرفت سفينته على الغرق. فماذا وقع لتونس و للتونسيّين من
منظور نفسيّ ؟
للإجابة عن هذا السّؤال سنحاول الاستئناس بالأسطورة
القائلة إنّ الأولاد قد اتّفقوا في الماضي السّحيق على قتل
الأب الذي كان مستحوذا على كلّ النّساء لا يشاركونه في أيّة
واحدة منهنّ...و لئن ربط علماء النّفس هذه الأسطورة بالماضي و
فسّروا بها مفاهيم كثيرة مثل الدين و الكبت و الجنس و
غيره...فإنّني أرى أنّ هذه الأسطورة قد بقيت رواسبها عندنا في
عشاء الميّت بل هي قابلة للتّكرار كلّما وجدت الظّروف المناسبة
رمزيّا أو فعليّا...و نحن في تونس قد مارسنا طقوسها في الثّورة
الأخيرة فثرنا على الأب و قتلناه قتلا رمزيا و مررنا بمراحل
الحداد و "شفينا" ....
أوضّح الأمر.
قبل الثورة الأخيرة كان الأب (=النّظام
البوليسيّ الذي يمكن اختزاله في شخص الرّئيس)قد استحود على كلّ
النساء(=المشاريع و الوظائف و الثروات و الأجساد و النفوس و
الأرواح)و تزوّج بأكثر من امرأة بل هيمن على كلّ النّساء و لم
يعد في مقدور أولاده (=الشّعب التونسيّ) الذين أصيبوا بالخصاء
السّياسي المشاركة فيهنّ...فاتّفق هؤلاء و ثاروا عليه فقتلوه.
و لكنّهم لم يتمكّنوا من اجتياز أطوار الحداد و مراسمه إلاّ
بصعوبة.فبعد مرحلة الصّدمة و الذّهول التي كان فيها أغلب
التونسيين غير مصدّقين و لا دارين بما يحدث,جاءت مرحلة الإنكار
فلم يصّدق أحد أنّ الرّئيس هرب .و ما مشهد ذاك السّيّد
التونسيّ الذي ذكّرني شخصيّا بصوت النّعيّ في ثقافتنا العربية
الإسلاميّة و الذي تداولته وسائل الإعلام العالمية و هو يصيح
وحده في الليل المظلم وسط شارع الحبيب بورقيبة" بن علي
هرب...هرب... "إلاّ خير دليل على ما أقول إذ لم يشاركه في تلك
اللّيلة أحد.ثمّ انتقلنا إلى المرحلة الموالية من مراحل تقبّل
الموت و هي مرحلة الغضب التي تكون عادة باللطم والصراخ و تمزيق
الثياب و غيرها من الطّقوس.فأحرقنا و نهبنا و دمّرنا مؤسّساتنا
و اعتدينا على بعضنا و خوّن الواحد منّا الآخر و حدث فلتان
أمنيّ رهيب و حاول البعض الالتفاف على الثورة و وقعت أحداث
القصبة و سقطت الحكومة و ساءت العلاقات و جنّ جنوننا و بلغ
التّوتّر و شدّ الأعصاب حدّا لا يطاق .و طالت فترة غضبنا إلى
أن بلغنا الفترة الموالية و هي فترة التقبّل و التّسليم بأنّ
النّظام قد مات. و لم نصل إلى هذه المرحلة إلاّ يوم تكلّم
الوزير الأوّل الحالي الباجي قايد السّبسي و أعلن نهائيّا أنّ
الرئيس المخلوع قد مات و انتهى أمره حين اتّهمه بالخيانة
العظمى و هذا يعني أنّه مات سياسيّا و انتهى أمره رمزيّا و فتح
الباب على مصراعيه لمحاسبته و إدانته بجرم لا يقلّ الحكم في
قضيّته بأقلّ من الإعدام لأنّه عسكريّ و ذو ولاية عامّة
ترك الميدان و فرّ. و منذ ذلك الخطاب أحسّ التونسيون بالرّاحة
النّفسيّة و استبشروا بما سمعوا و عادت الحياة إلى طبيعتها .و
قد تعزّز هذا الإحساس بحكم المحكمة بحلّ التّجمّع الدّستوري
الدّيمقراطي.و وطّدنا العزم على مواصلة المسيرة في الطريق التي
رضي الجميع بالسّير فيها.
و لكنّ المشكلة المعترضة هي كيف
سيتمّ تقاسم التركة ؟أم أنّ قدر الشعب التونسيّ سيضطرّه
إلى تكرار طقوس الأسطورة و قتل الأب مرّة أخرى؟؟
Partager
|
|
|