نلاحظ في الآونة الأخيرة عودة و تكرارا لموضوع تناوله الكتبة
و الدّارسون منذ إلغاء مؤسّسة الخلافة سنة 1924 م.فلا نفتأْ نسمع
عن رغبة جامحة في إعادة ألقها لتطبيق شرع الله و استعادة الأمجاد و
تحقيق العدل بين النّاس ،إلى درجة جعلت بعضهم لا يرى في ذلك إلا
الحلّ الأمثل للظلم الاجتماعي و التّفاوت الاقتصادي و القهر
المعنويّ و الفساد الأخلاقيّ المستشري بين النّاس...فعند هؤلاء كلّ
ما يمثّل عودة إلى الماضي فيه قضاء على عيوب الحاضر,لأنّهم يعتقدون
أنّ تجارب الحياة اللاحقة لعهد السّلف و تطويرات النّظم و إضافات
المتعاقبين لا قيمة لها, و كأنّ عقارب السّاعة قد تعطّلت فتوقّف
الزّمن في لحظة لا تتحرّك دواليب الحياة إلاّ بالعودة إليها و
جعلها المرتكز و نقطة الانطلاق لتعاد الحياة و يقع الحافر على
الحافر.فلا إبداع و لا تغيّر و إنّما مجرّد اتّباع و عودة إلى ما
فات و وقوف عند القرون الثّلاثة الأولى فحسب و في أحسن الحالات
يتسامح بعضهم فيريد العودة في المطلق إلى نموذج الخلافة الذي
استمرّ إلى أواخر الرّبع الأوّل من القرن العشرين ...و في ظنّهم
أنّ هذا النّظام خير كلّه و عدل كلّه و جمال ما وراءه جمال .
لن نتناول هنا تاريخ الخلافة الإسلاميّة و لن نخوض في الخلاف
الدّائر حول معضلة أ هي مؤسسة دينيّة أم مدنيّة استغلّها المهيمنون
على الحكم المتسلّطون على رقاب النّاس مع انتقاء ما صدر عنهم و
عاشوه من لحظات مخطوفة كانت فترات منيرة فيها الخير و العدل و
التّسامح و بحبوحة العيش.و إنّما سنكتفي بالعودة إلى المعاني
اللغويّة المتّصلة بلفظي خلافة و خليفة إذ لا شأن لنا في هذا
المقال بالمعنى الاصطلاحي الذي تناوله غيرنا.
و بداية أقول لم أجد في ما بين يديّ من دراسات عودة جادّة
للمعاني اللغويّة المرتبطة بمادة(خ . ل . ف)في قواميس اللغة . و في
هذا المقال سأحاول فعل ذلك لعلّنا نخرج بنتيجة تدفعنا لإعادة
النّظر في هذا الموضوع أكثر تبصّرا و أكثر تجدّدا و أكثر نقدا
للذّات و ارتباطا بالواقع و الحياة المتغيّرين....
من المعروف أنّ مشروع الاستخلاف في النّظريّة الإسلاميّة
مرتبط بداية بخلق الإنسان .و من المنطقيّ أيضا أنّ الخليفة ليس
خليفة لله تعالى الذي لا يغيب و لا يحتاج إلى من يقوم مقامه في
ملكه.و تبعا لذلك سننظر في مفهوم الخلافة و من هو الخليفة الذي فكر
الله فيه؟
في علم الصّرف الخلافة مصدر أصليّ من خلف على وزن فِعالة
الدّالّ على المهنة و المهمّة التي يضطلع بها الخليفة و العمل الذي
يمارسه.
و أمّا لفظ خليفة فقد أوجز القرطبي الخلاف المرتبط به حين
قال في تفسيره:" و خليفة يكون بمعنى فاعلا أي يخلف من كان قبله من
الملائكة في الأرض أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روي و
يجوز أن يكون خليفة بمعنى مفعول أي مخلف كما يقال ذبيحة بمعنى
مذبوحة".
و لن نعير اهتماما بقراءة زيد بن علي خليقة عوضا عن خليفة
التي لم تشتهر و لا تهمّنا أسباب ذلك الآن و إنّما تركيزنا على
معاني خلافة و خليفة انطلاقا من مادة (خ ل ف) في لسان العرب.
فبالعودة لابن منظور أمكننا حصر المعاني التي تتّصل
بهذه المادة اللغوية فاذا هي ترتبط
1/ بمعنى التعاقب و التراتب مكانا و زمانا
فخلفه صار خلفه و جاء بعده. و كذلك خلف فلان على فلانة تزوجها بعد
زوج. الى جانب اختلاف الليل و النهار.
2/
بمعنى
ممارسة الجنس في غياب ممارسه السّابق دون تكاثر بالضّرورة
فالخلف هم النسل.و منه أخلف النبات و الطائر .و خلف فلان بعقب
فلان اذا خالفه الى أهله أي أتى امرأته إذا غاب عنها . و خلف فلان
على فلانة تزوجها بعد زوج و خلفت الناقة حملت و الإخلاف أن تعيد
عليها الفحل فلا تحمل.
3/بمعنى الموت و الجريمة و الغدر و المرض و المواساة:
فخلف الله عليك أي كان الله عليك خليفة (في مقام التعزية) .و خلف
له بالسيف جاء من خلفه فضرب
عنقه و خلف عن الطعام :أصبح ضعيفا لا يشتهي الطعام.و خلف نفسه عن
الطعام إذا أضرب عن الطعام من مرض.
4/ بمعنى الاختلاف و الكذب و إخلاف الوعد:
فأخلف الوعد لم يف بعهد و لم يصدق و خلف فلان بعقبي إذا فارقته
على أمر فصنع شيئا آخر و خلف فلآن عن أصحابه اذا لم يخرج معهم
5/بمعنى التّغيّر و الفساد و الفشل
فخلف اللبن تغير طعمه و ريحه ؛ فسد؛و خلف فوه: تغيّر و خلف فم
الصائم: تغيّرت رائحته و خلف فلان فسد و خلف فلان عن كل خير لم
يفلح .
6/بمعنى ضرب البيت و اصلاح ما فسد و بلي:
فخلف بيته جعل له خالفا(وهو عمود من أعمدة الخباء)و خلف الثوب و
ذلك أن يبلى وسطه فيخرج البالي منه ثم يلفقه. و أخلفت القوم حملت
إليهم الماء العذب و هم في ربيع ليس معهم ماء عذب أو يكونون على
ماء ملح .
و النّاظر في المعاني سالفة الذّكر يرى أنّها بيّنة الاتّصال
بالفساد و الجريمة و القتل تنسجم مع ما أجابت به الملائكة مستنكرة
في قوله تعالى بالآية 30 من سورة البقرة-2 " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ".
و مهما دوّرنا اللفظ و بحثنا له عن وجاهة في الاستعمال
فإنّه لم يستعمل في المراد الذي أُريد له والمعنى الذي قسر عليه و
الدّلالة التي سيّج بها و أجبر على أدائها و ألبست به في تراثنا
العربيّ الإسلاميّ.و قد اتّفق السّاسة المسلمون على لفظ خلافة
لوعيهم بهذه المعاني الموجودة فيه بالقوّة.فحتّى لو اختاروه لمعناه
الأوّل فحسب أي معنى التّعاقب لألفيناه ملتبسا بمعنى الفقد و موت
السّابق الذي لا يمكن أن يعود و يحكم بعد ذهابه.و أمّا هذا الذي
خلفه فإنّه عقيم أو شبه عقيم يمارس الشّهوة دون إنتاج بالضّرورة
لأنّ الذي أنتج مات و خلف أنثى لا تنجب من الجديد.
و المعنى السّادس الأخير إيجابيّ الدّلالة في ظاهره إذ هو
يتعلّق بضرب الخيمة و لكنّه لا يعدو فكر الصّحراء و ثقافة البادية
.ثمّ إنّ إصلاح الثّوب ظاهره رتق و تحسين بيد أنّه في الحقيقة
إفساد و تشويه بالتّرقيع و ترك القديم البالي المهترئ على ما هو
عليه من هلهلة و فساد هو مؤجّل غير أنّه مرتقب يدلّ عليه حال ما
سبق.و كذلك الأمر مع حمل الماء العذب فالقوم لا ينتجونه و إنّما
يأتيهم من غيرهم أي من خارج مضاربهم .فهم لم يسعوا له و ليس لهم و
إنّما هو منّة و تصدّق لكي لا يصيبهم الفقر المدقع و الفناء.
فكلّ المعاني اللّغويّة التي نروم استثمارها في الفهم
ملتبسة بالفكر الماضويّ ذي الرؤية الثّبوتيّة التي ترى السّابق
أفضل من اللاحق و القديم أفضل من الجديد و السّلف خير من الخلف.و
لعمري فإنّ اللّغة تعكس رؤية للعالم و الوجود و لا يمكن أن تتطوّر
المعاني إلاّ إذا طوّرنا فهمنا للكون و غيّرنا رؤيتنا للعالم و
أنتجنا و أبدعنا و كففنا عن الاتباع. و إنّ ذلك لمستحيل إذا ما غدا
إدراكنا له إيمانا راسخا و رفضا للحياة و محاربة للتّغيّر.
فهل تخلّى العرب و المسلمون عن مؤسّسة الخلافة لأنّها تحمل
بذور النّقص و القصور و الفناء في ذاتها أقصد ما يتّصل باختيار
اللفظ و المعاني اللغويّة المتعلّقة به المرتبطة بالموت و الفساد
أساسا أم هو نتيجة حتميّة للأخطاء التي ارتكبها السّاسة في حقّ
الشّعوب الأخرى التي تروم الانعتاق و مواكبة إيقاع الحياة
المتجدّدة أم أنّ الأمر مجرّد ترك لمؤسّسة لم يعد لها مكان في
العالم وجب تجاوزها لتغير الحياة و إكراهات الواقع مواكبة لإيقاع
الوجود ورقيّ الوعي البشريّ الذي يقول إنّ لعبة السّياسة ينبغي
التّخلّي في أدائها عن ادّعاء الارتباط بالسّماويّ المقدّس
للتّسلّط على رقاب النّاس بعد احتكاك العرب و المسلمين بالغرب و
تشريعاته.
و أنا أدعو الجميع إلى التّأمّل في هذه المسألة التي يلخّصها
هذا السّؤال :" هل هذه التّشريعات منجز غربيّ خاص بهم لا ينبغي
ممارسته و تطويره من لدن غيرهم ؟" أليس هذا المنجز إرثا بشريّا
مشتركا يعكس وعيا جديدا هو نتاج تراكم لا يهمّ ثقافة محدّدة و لا
حضارة معيّنة و لا دولة مهيمنة؟ فلماذا نقصي أنفسنا عن العالم ؟و
إلى متى نتمسّك بنظم عفا عليها الزمن و تجاوزتها أحداث التّاريخ
فلم تعد سوى حلم جميل نتلذّذ بذكراه أو كابوس مرعب نروم التّخلّص
منه؟
و لو عاد المتشبّثون بالخلافة ممّن لم يدرسوا تاريخها و
الجوانب المظلمة فيها بداية من فترة ما قبل السّقيفة التي أسّست و
هيّأت لنظام الحكم الذي هيمن على الحياة لوجدوا أمرا عجبا و لكفّوا
عن استثمار المعنى الاصطلاحيّ لكلمتي خلافة و خليفة دون معرفة و
تدقيق ينشد الحقيقة و يطمح لما هو أفضل.
إنّهم يريدون بعث الحياة في جثّة باردة ساكنة لا يمكن أن
تحيا و تتحرّك من جديد لأنّها لم تخلق لنا و لم نخلق لها. فلا
نكابرنّ و لا نتوهّمنّ أمرا غير واقعيّ و لنهتمّ بما يحسّن الحياة
و يطوّر الاقتصاد و يدفع للعمل الذي به يتوفّر الرّغيف للجميع
بعيدا عن عقليّة الجفاف و الصّحراء و التّواكل و الاتّجار بما لا
ننتج و ليكن ديدننا في ذلك حسن الخلق و السّعي إلى الارتقاء
بالإنسانيّة و إنّها لتسمو بنا و بغيرنا من بني البشر الذين سادوا
العالم و طوّروا البحث العلميّ و بنوا مثلا جديدة متميّزة ما دارت
بعقول أجدادنا و لا فكّروا فيها أبدا و لا خطرت على قلوبهم.
و رغم ذلك فليتساءل هؤلاء و ليكرّروا بينهم و بين أنفسهم
متأمّلين:بما أنّ الخلافة ألغيت,لماذا نروم اليوم العودة إلى ما
تجاوزه الزمن و أصبح من الماضي ،فلو كان يصلح للحياة لبقى و استمرّ
و لما مات و لا هو اندثر و لا وقع التّفريط فيه و تجاوزه.و من
أدرانا كيف كان يمكن أن يكون حال العرب لو لم ينجزوا مؤسسة
الخلافة ؟ و كيف كان يكمن أن تكون حال الشّعوب التي سادت فيها
الحضارة العربية الإسلامية لو لم يدخلها المسلمون ؟ و كيف كان يمكن
أن تكون حال العرب لو لم يشاركوا الشّعوب الأخرى تنظيماتها و
يطعّموا حياتهم البدائيّة بمنجزات الآخرين و يندمجوا في شعوبها و
يفكّوا عن أنفسهم العزلة و الوحشة و التّغوّل؟.فإلى متى التباكي
على ما فات و الحال أنّ لعبة السّياسة شأن بشريّ متغيّر يقوم على
الاتّفاق الأفقيّ هنا ,اليوم ,على ا|لأرض بين الخصوم السّياسيين؟؟؟ |