أحمد 

       حمدت "حدّة" الله لأنّها لم تنجب أطفالا قبل طلاقها من زوجها الأّوّل.. لقد كان سكّيرا عربيدا .. لكنه و الحقيقة تقال  كان رجلا : يعمل و يكسب مالا حلالا  سرعان ما يتلفه  في الخمر و السّجائر و القمار . لم يتفاهما  . فطلّقها  و هو يقول: أنا لست ملاكا ، ابحثي عن ملاك في السّماء" .
       و فعلا وجدت ملاكها  بعد أن يئست من الرّجال ؛ كان اسمه أحمد ؛ و لذلك توسمت فيه خيرا ؛ و لم يهمها أن كان أعمى ؛فهي أيضا ضعيفة البصر ، لا تكاد ترى  إلا بصعوبة .
       كانت تــــعمل موزعة هاتف بالمستشفى الجهوي  ببنزرت  ، و قد جلب لها ذلك احتراما ، و  وفر  لها حــياة كريمة ، و  إن  كانت لا تخلو من شظف و عسر و حرمان أحيانا .
       اضطرت إلى السكن  عند خالتها" فطوم "بعدما تنكر  لها  أعمامها و اخوتها  و منعوها حقها في الإرث: ارث  أبيها. خوفا من أن يذهب الرزق بددا لدى الغرباء.
       عندما تزوجت زوجها الأول ، نسيت الأمر زمنا . ثم عادت إلى رفع شكوى  لدى المحكمة الابتدائية عندما احتاجت إلى المال  لتوكيل محام يطلقها من زوجها . و اكتفت يومها بطلب منابها  من الأرباح التي تغلها الأرض الخصبة في جهة ماطر الغنية  المعطاء.
        رضيت بأحمد رغم عماه ، و  فرحت  بذلك ،  أليست  في حاجة إلى زوج تعيش  في كنفه و تنام معه تحت سقف  واحد ؟
       تدبرت خالتها الأمر ،   و  زوجتها في بيتها الفقير ، و دخل  أحمد على زوجته في  غرفة نوم الخالة "فطوم" ، و لأول مرة  تدفأ فراشها و عرف رائحة  رجل بعد وفاة زوجها  " برهوم"منذ ما يزيد  عن عشرين سنة .
       انقضت أيام العسل سريعة لذيذة  ، فأخذ أحمد زوجته ، و سكنا قرب  العاصمة في ضاحية" وادي الليل   " غير بعيد عن  مستشفى القصاب "  لجبر الكسور  و تقويم الأعضاء . و لم تنته السنة حتى انتهى  عذابها  و كفت عن الترحال . و أصبحت تنام ملء جفنيها  بعدما تمت المناقلة بينها و بين زميل لها يعمل موزع هاتف مثلها   في مستشفى القصاب. و بذلك تمت  سعادتها . فلم تتجاسر على التأكد من قول زوجها : انه يعمل في شركة للف بــالبلاستيك"  قرب مطار تونس قرطاج الدولي .و نعم العمل في العاصمة ! انه  لكهل أعمى .  و رغم ذلك  فهو يربح مالا وفيرا غير أن المشكلة أنه أثر في كفيه فأورثه حساسية مزمنة  و لذلك تراه  دائما يفرك يديه كأنما يمحو  بهما آثار وسخ لا يريد أن يزول رغم دوام الفرك و الهرش .
       كان يخرج كل يوم في نفس المواعيد و يعود في نفس المواعيد : ينهض باكرا قبل السادسة صباحا ، و يعود مع الواحدة و النصف  بعد الزوال ، ثم يخرج على الساعة الثانية و النصف  فلا يرجع إلا بعد غروب الشمس، و كان يدأب على ذلك صيفا وشتاء  ، و لا يغير مواعيده أبدا كأنه ساعة مضبوطة، لا تتعب و لا تكل و لا تمل .
       تعودت حدة  ذلك . فلم تكن تستغرب  عدم عودته  يوم الجمعة اثر الصلاة و لا عمله يوم الأحد : أ و لم يقنعها  بأن العمل في الشركة  يمتد أربعا و عشرين ساعة  دون توقف ؟. ثم أ لم  يؤكد لها أنهما في حاجة  إلى كل لحظة  عمل  لتسديد  معلوم كراء المنزل  و تأثيثه ؟؛ اقتنعت بكلامه . و قنعت  بحظها . و اكتفت  بما  قسم الله لها من نصيب راضية  شاكرة مستبشرة ؛ إنها لا  ترغب في تكرار  تجربتها  مع زوجها الأول  التي خلفت  في فمها مرارة  و في قلبها حسرة لا تزال تؤلمها  و تخزها من حين لآخر : كان مبصرا . و طمع في ثروتها . و هذا أعمى  و لم  يسألها عن شيء ؛ المهم عنده أن يجمع الله بينهما في خير ...
                                                                   ***
          عندما مرت ستة أشهر على زواجها الثاني ،أخبرها بعض زملائها في الشغل عن وجود طبيب مشهور في جراحة العيون ، فقررت أن  تزوره في عيادته المعروفة  في شارع "  لوي براي  " بتونس العاصمة .
       خرج زوجها  كعادته  باكرا. فانتظرت ساعتين لتخرج  بعده  .  ركبت سيارة أجرة " تاكسي " أوصلتها إلى حد باب العيادة .  دخلت  من الباب . ثم جلست  على الكرسي  منتظرة  دورها الذي لم يأت  إلا بعد  لأي  و طول  عذاب .
       استقبلها  الدكتور  بحفاوة . و فحصها فحصا دقيقا  و لاطفها  .ثم  أعلن النتيجة :" علاجك ممكن ... تقويم بصرك  لا يحتاج إلا إلى إبدال  عدسة عينك الطبيعية المصابة  بأخرى اصطناعية  جديدة  بعد إزالة  الماء الذي  يسبب لك ضبابية الرؤية ".
       سعدت بما سمعت ، فأضافت متلهفة :" هل العملية مكلفة " فأجاب  على  الفور :  لا ... سبعمائة  و خمسون دينارا  في مصحتي . و إن  رغبت  في القيام بها في مستشفى حكومي  فما عليك سوى توفير العدسة  ... ستكلفك  مائة و سبعين  دينارا لا  غير...  قولي مائتي دينار على الأكثر ."
      فرحت .و شكرت الطبيب ثم انصرفت... لم تشأ أن  تعود بل أصرت على الذهاب إلى "   سيدي محرز"  لوضع شمعة على تابوته  الطاهر  كانت  وعدت بها  سلطان المدينة  مذ جاءت إلى تونس  بعد نقلتها إلى عملها الجديد اثر زواجها الثاني .
      قالت في نفسها: هي شمعة . فلتكن شمعتين :واحدة هي  التي و عدت بها  سيدي محرز عندما   انتقلت من بنزرت  و واحدة  لهذا الخبر السعيد . و إن أنا أتممت ما عزمت عليه قبل منتصف النهار ، فسوف أذهب إلى  مستشفى العيون  بباب  سعدون  لأسألهم  هل بالإمكان  إعانتي و لو بربح بعض الوقت  و تقريب أوان العملية .  ثم تلمست الرسالة التي أعطاها إياها  الطبيب . و انطلقت  تتحسس الطريق  و تسأل الناس  ليدلوها متفادية الحواجز و الأشياء  التي أخرجها  أصحاب المحلات  على الرصيف  و كراسي الأعراف  الذين يجلسون فوقها  متلذذين  معسل الشيشة و  قد علت أصوات  الباعة المتجولين  مادحة  البضائع المنصوبة على الجانبين  .
                                                                     ***
      وصلت إلى مدخل سوق سيدي محرز " و سارت  وسط الزحام و الأصوات المختلطة  . و لما قربت من  مدخل الولي الصالح ، سطعت  أنفها  رائحة البخور العجيبة ... انها تميزها  عن  رائحة الداد و المجموعة و الجاوي  و غيرها من الروائح  الأخرى .
      اقتربت من أحد الباعة . و اشترت  شمعتين  و بخورا . و تقدمت  نحو الولي الصالح : سلطان المدينة ، متهيبة ، خاشعة .و  سمعت  مقرئا يرتل  القرآن  بصوت  لا يخلو من  جمال  ففرحت و أنست نفسها .
                                                              ***
      دخلت من الباب الكبير  إلى السقيفة فانقطعت  عنها الغوغاء و أصوات  الباعة المبحوحة  من الخمر  و الدخان و الصقيع . و سارت مطمئنة  في طريقها  إلى  الحرم المبارك  حيث الخشوع و التقى و ذكر الله و الرسول و الأولياء و الصالحين.
      كان  طلاب سيدي محرز  يملئون المدخل الطويل  ذات اليمين و ذات الشمال و قد  أقعوا  بهاماتهم المبهمة  و رفعوا عقيرتهم بالصياح في صخب مختلط :
يا كريم
متاع الله
لله
في سبيل الله
يا أحباب ربي
     لم تنتبه إلى كل ذلك لأنها كانت مأخوذة بجلال الحرم و قدس المقام  الذي تروم الوصول إليه في أقرب وقت .  دخلت إلى الأعماق ، إلى القلب ، إلى وسط الدار : مزار "سيدي محرز" المبارك. فاختفت  جلبة طلاب  المال، عرض الدنيا الزائل ، . تقدمت .دخلت الصحن .فغابت عنها  كل أصوات الدنيا ، و أصبحت لا تسمع إلا إلى فرقة مدائح و أذكار  تنشد و تتغنى  بمدح الرسول و أولياء الله الصالحين . تطهرت نفسها . ذابت  مع النغم الحلو اللذيذ الخاشع .تقدمت نحو الحرم في تؤدة خطوات . فزاد الصوت وضوحا و جمالا و زاد النغم صفاء و انسجاما . مالت نحو  اليسار قليلا ثم سبقت  رجلها اليمنى و بسملت ثم دخلت المقام و هي تبتسم في نشوة  و تمتمت في شبه غياب عن كل ما عدى ما هي مستغرقة فيه: " يا سيدي محرز ... يا بابا " .
       نزعت حذاءها . و وضعته  في يدها اليسرى . و وضعت رجلها فوق بساط  ناعم ذابت نفسها  لملمسه و أشرقت روحها و تلألأت و سطعت الأنوار  أكثر و  أضاءت المحل  .  لقد أبصرت . أجل لقد أبصرت  نور المقام الذهبي  و انقشع الحاجز  الخشبي  الأخضر  المنقوش  بديع الصنع . انه حاجز يمنع الولي   في تابوته المزين  و قد أحاطت  به  السناجق مختلفة ألوانها  متنوعة أحجامها  من  عبث أيدي  الزائرين و دنسهم .
       أمسكت  بيدها الخشب المحيط  بالمقام دون أن يسقط  حذاءها  من يدها . و في لحظة صفاء  و تجل بكت . أجل لقد بكت  تأثرا و جلالا و خشوعا : " يا سيدي  ؛ جئتك  يوم فرحتي . و هذه وعدتي . تقبلها مني . و تمم سعادتي . يا سيدي" .
       ألقت الشمعتين و قرطاس البخور وراء الحاجز خاشعة  و ملأت رئتيها بطيب رائحة المسك و العنبر و ماء الزهر  و العطرشاء  مختلطة  فواحة . لقد ميزتها واحدة  واحدة  . و كادت ترقص  حين تسارع قرع النقارتين  و علت أصوات الدفوف و غناء أفراد فرقة المدائح و الأذكار  الصوفية  فأنصتت في انتباه  إلى ذكر الله و مدح الرسول  و الأولياء و الصالحين .
      لمست الحاجز . و تمسحت به  طويلا . ثم أخرجت  من جيبها  دينارا كاملا . و ألقت به   وراء الحاجز  صدقة و إكراما للمقام . و بعد دلك  شربت من الزير  شربة ماء قدمتها لها سادنة الحرم  عندما  رأت الدينار يلمع بين أصابعها   و هي تقول :  اشربي ماء سلطان  المدينة . انه ماء مبارك لا يعدله بركة  إلا ماء  بئر زمزم  جعلنا الله نزوره  و نشرب منه بجاه  النبي محمد  عليه الصلاة و السلام .
     مسحت وجهها بكفيها المفتوحين  حين سمعت ذكر النبي محمد . ثم أخذت  الإناء  . و شربت منه مريئا  حتى ارتوت  فنزل الماء سائغا  لذيذا  باردا منعشا  أحيا روحها  و ملأ قلبها  اطمئنانا .

***
       و بعد  ساعة خرجت بعد  أن دعت  و تركت أحزانها  و نسيت  همومها ، و خطت نحو الباب  و لبست حذاءها  في دعة و اطمئنان  ثم استدارت  و سلمت على أهل المقام المبارك  و الحاضرين ثم دارت باتجاه اليمين و خرجت من الباب الأوسط  فوجدت  نفسها  وسط الدار. خطت خطوتين  مخترقة الباب  فخرجت من عالم إلى عالم  ، إذ علت   أصوات المستجدين مختلطة قبيحة متنافرة نشازا  فيها غلظة و بحة  منكرة و فيها إلحاح و إصرار منفرين .
       تقدمت  وسط اللغط ثابتة الخطى  فزكمت أنفها  رائحة العرق  و البول  و سمعت شتى أصناف الأصوات  المتنافرة المتداخلة .
                                                   ***
      إنها تعرف هذا الصوت معرفة جيدة  . و تميزه من بين  ملايين الأصوات  بل بين أصوات كل رجال العالم .  لقد  أنكرت  الأمر عند  الدخول و كذبت أذنيها  السليمتين  لأنها لم تكن لتتوقع ذلك  . لكن الآن توضحت الأمور  . إنها تسمع نفس الموال  يخترق أذنيها و يخزها  وخزا شديدا .  تقدمت  أكثر  و هي تصغي في حذر و حرص :
   يا كريم
   متاع الله
   لله
   في سبيل  الله
  يا أحباب  ربي
    لقد بان الأمر  و انكشف السر و توضح ما كان خفيا  : انه صوته  و هي  لا تصدق  أنه صوت أحمد زوجها  الأعمى  . تقدمت  و قد  امتلأت  نفسها حنقا و حقدا على كل الرجال   و ملأت فمها بصاقا " تفو . عليك . يا كلب . خدعتني و كذبت علي  . أنت  حقير صغير النفس  لا همة لك  و لا  رجولة . "
      تساكن  أحمد  و تسلل  صامتا متلفعا  في دناءته و جبنه  و خرج يمضغ  خسته و يفرك يديه  ينظفهما من الدنس  الذي علق بهما و لا يريد أن يزول رغم الفرك و تواصل الدلك  و هي لا تنفك  تلعنه  و تسبه  و تنعى عليه رجولته . انه يعرف  منذ الآن  أنها لن  تقبله  في بيتها   بعدما تعود  إليه دون الاستعانة بأحد  و قد عاد إليها  نور عينيها و أبصرت : فليبحث عن مكان آخر  يبيت فيه  بعد اليوم .
                                                         ***
       قالت في نفسها بعد أن  سكت عنها الغضب :  لا  يزال أمامي متسع من الوقت  فلأذهب إلى مستشفى العيون لأخذ موعد . اليوم تبدأ  حياتي  سأبصر النور من جديد. 

 منزل جميل في 12/09/2001

قصص أخرى
أحمد
خضراء الدّمن
الحذاء الأحمر
يحيا الملك ...يعيش الملك
جنازة الطّفل الذي مات
المطارد
الطّرد
قصص للأطفال
الحمار هي هان
القط بش بش
الثّور الشّهيد
من أنا؟
تعريف
قصصي
أشعاري
مسرحياتي
تحقيق
ترجمة
دراسات
مواقع

الصفحة السابقة

طبع الصفحة

الصفحة الرئيسية | صور | غابة الرمال | الفضاء | التاريخ | من أنا؟ | عائلتي | عائلات منزل جميل | المعالم الدينية | أمثال و أقوال | المنظمات و الجمعيات | المؤسسات | الثقافة و الفنون | ناس مروا | المتحف | راسلونا

Copyright 2012©2015 leplacartuel.com