خضراء الدّمن |
لقد تغيّر فيّ كلّ شيء...لم أعد ذلك الجلف الجاهل الذي
لا يفكّ الحروف و لا قدرة له على ذلك...لقد تعلّمت...تصوّروا
لقد جاءني صديقي شارل يوما و تمتم متعجّبا مستغربا:- أنت
تحبّ؟!!...ثمّ ضحك عاليا متابعا و متى صار لك قلب؟...أنت لا
تعرف الحبّ و لم يخفق قلبك إلاّ لقارورة الكونياك و كأس
الباستيس...أنت أعظم سكّير عرفت على الإطلاق...ها..ها..ها..
و حقّا فلم أكن أحبّ أحدا قبلها كما
لم أكن أبغض أحدا و كانت لامبالاتي بالأشياء غريبة بشكل
مزعج...
قال لي الأصحاب في السّجن:- إنّك
مرعب و وجهك شاحب كئيب...لم أبال بهم لأنّني كنت أشعر بسرور
غامر يملأ نفسي و كياني...إنّني راض على نفسي فقط...إنّني أمل
و إشراق باطنيّ جامح...لذلك واصلت الحديث سعيدا :- لقد
أحببتها- أحببتها بكل صدق و الله شاهد على ذلك...أجل لقد
أحببتها من كلّ قلبي ...و لم أكن أحبّ أحدا قبلها...أنا ذلك
الجلف الذي قال له والده يوما:- إنّك لا تصلح لشيء هنا و طرده
من الحقل المعشوشب...ذلك الحقل الذي أجهدت نفسي حتّى صيّرته
على ما هو عليه من جمال و غلال...على كل...تدبّرت أمري و
سافرت...
قبل الحادثة بيوم لم يكن معي في
الغرفة غير شارل و قد مالت الشّمس إلى الغروب فقال لي :- ستكون
عشيّة رائعة...انظر لون الطّبيعة الزّاهي...انظر الحقول
الخضراء...انظر الدّوالي...إنّها الجنّة...الجنّة يا
صديقي...إنّها فـ...فقاطعته و قد كاد يتخمّر - اسكت يا شارل
إنّني لا أتحمّل كثرة كلامك...إنّك ثرثار...ثرثار بحقّ، فضحك و
قال:- إنّك لا تغضبني بملاحظاتك الكثيرة لأنّك صديقي فعلا...
خرجت عندئذ من الغرفة الخانقة
و استنشقت الهواء نقيّا .ثمّ لوّثت دمي بخمر السيّد(جان)في آخر
الشّارع ثمّ عدت مترنّحا و نمت...
و في الصّباح قلت لـ"شارل":- سأغيب
هذا اليوم و لن أرجع إلاّ غدا أو بعد غد.ثمّ اتّجهت
نحوها...أنا أعرف مكانها مثلما أعرفها:قوام رشيق و جمال
فتّان...و الكلّ يطمح إليها و يهرّ عليها فلا تلتفت و قد تبصق
في وجه من يعاكسها ...الويل لمن يعاكسها...إنّها لي...لي
فقط...و لا لأحد غيري.
يا لله،يا لعينيها :تلك الدّمية في
بلاد الغربة،حقّا قد أعجبني فيها عيناها الخضراوان و يا
لروعتهما،إنّهما رقّة و سحر ،إنّهما عينا تونسيّة مثلي في بلاد
الغربة...عيناها خضراوان...إنّهما عشب يرتع فيه قلبي مثلما
ترتع شياه والدي على ضفاف مجردة،هناك على السّاحل الآخر
للبحر المتوسّط في برّ إفريقيا، بعيدا...بعيدا ...بعيدا...
و الغريب أن لا أحد يصدّق أنّ
وطني أخضر مثل عينيها،حتّى "شارل".فقد قال لي يوما:- إنّك
تخرّف دوما بهذا الهراء و تهذي و ليست إفريقيا سوى إبل و رمال
و جوع و فقر و عطش.
أغضبني يوما فخاصمته و لم
أكلّمه إلاّ بعد أن جاءني يطلب العفو و الغفران...يقول
:- أجل ...إنّ وطنك أخضر،أخضر مثل عينيها تماما،إنّه أخضر
فعلا...أنا أحبّ وطنك،إنّه وطني...أنا الآخر...هل نسيت أنّني
ولدت هنالك و أنّ لي منزلا على ضفاف بحيرة بنزرت.ثمّ سكت
فاستغرقت في أحلامي بعد أن ابتسمت معبّرا له عن قبولي العفو
عنه و أنا أقول في سرّي "هل يكون حبّي لها من أجل عينيها
؟....أجل...أجل...و لولا عيناها لما أحبّها أحد...إنّ في
عينيها لسحرا و دلالا...إنّهما أجمل عينين رأيتها...و فيهما
أرى وطني البعيد... هناك وراء البحر...
في الأيّام الأخيرة بدأت
حيرتي...احترت تماما مثلما يحتار النّاس...و لكنني احترت
لأجلها...لقد صرت أخشى عليها من أعين النّاس تؤذيها...و هذا
جنون... صرت أصون خضرة عينيها مثلما يفعل الصّوّان في حقل
الزّيتون هناك في قريتي ...في تونس خلف هذه القضبان...و لكنّ
صوّان حقلنا سرّاق و أنا لست مثله...إنّه يمدّ يده إلى
الزّنبيل...و أنا أحضنهما و أقبّلهما حتّى إنّني أغيب عن
الوجود ...يا ويلي كم أحبّها! و يا لتينك العينين الخضراوين...إنّني
أحبّهما و أحبّ صاحبتهما بنت وطني...وطني...و الكلّ يعلم
ذلك...و سأقتل كلّ من يعتب ناحيتها..و أنا أغار عليها من نفسي
...لقد تعلّقنا ببعضنا ...و صرنا واحدا و كنّا سنتزوّج في
الصّيف ...هي ابنة السبعة عشر ربيعا و أنا ابن الأربع و
العشرين خريفا...
في صباح ذلك اليوم العجيب إذن
قلت: - سأذهب إلى "نيس" و سأتركها في"كان"فليرعها الله...و كنت
يومها خائفا عليها...
و في المساء من
ذلك اليوم العجيب كنت قد أتممت ما عزمت عليه...فقد اشتريت
صالونا و أثاث بيت نوم و وسقته نحو "مرسيليا" و لسوف يسبقني و
يكون في انتظاري عندما أعود بعد أسبوع ...
شربت كثيرا قبل أن
أعود إلى "كان"في مساء ذلك اليوم إذ عدلت عن المبيت بعد أن
أتممت ما ذهبت من أجله... و في "كان"أيضا شربت و دخّنت
حتّى احتجب قلبي ...نعم قلبي...لقد صار لي قلب و لكن الدّخان
عليه كثيف فاحتجب و تلوّث...
و عندما عدت إلى منزلي لم أكن في
حاجة إلى طرق باب الشّقّة لأنّلي مفتاحا مثلما أنّ لشارل
مفتاحا...فتحت الباب في سكون...و الشّمس تميل إلى الغروب و
دخلت صامتا ذلك الصّمت الذي يعتري السّكّيرين أحيانا و خصوصا
الشّرّيبين العاشقين مثلي...
و دخلت و أنصتّ
جيّدا ...تنهّدات و زفرات...و شهقات...و قبلات...و
آهات...ودماغي يفور و يفكّر...من يكون بالدّاخل؟ غريب...لقد
نبّهت شارل و قلت له أن أمسك عن أن تفعل مثل هذا في شقّتنا
لأنّ دمي زفر ملوّث...و أريد أن أتوب و أتزوّج على سنّة الله و
رسوله...لا يهمّ...خطوت خطوة وناديت:ـ شارل...شارل...فلم يجبني
أحد...
تقدّمت نحو غرفتي
و فتحت بابها على حين غرّة ...يا الله...لم أصدّق:أفي غرفتي
يقع مثل هذا و على سريري...أ أنت تفعل هذا يا شارل...يا أعزّ
صديق...و فار الدّم في عروقي و لم أبق لهما فرصة الإفلات أو
حتّى إتمام شهوتهما...فأخذت كرسيّا و هويت به على رأس شارل
أعزّ الأصدقاء...فترنّح عاريا و هوى على الأرض و سال دمه من
رأسه...فواجهتني عيناها...عيناها الخضراوان السّاحرتان...فخفت
من نظراتها...أجل خفت و لأوّل مرّة في حياتي....حدّقت فيّ
فأخافتني...و لكنّني تمالكت نفسي و شددتها من شعرها و صفعتها
...فتألّمت و غرزت أظافرها في لحم وجهي فأدمته...نظرت في
عينيها جيّدا...و بصقت فيهما ...عيناها السّاحرتان...ثمّ لم
أدر كيف فعلت...لأنّها كانت لها قدرة كبيرة على العراك...و هي
تصيح: لقد قتلته ...لقد قتلته...عندئذ أظلمت الدّنيا في عينيّ
و أمسكتها من رأسها و شعرها كأنّني أوثقها فتمنّعت و أرادت أن
تزيل يدي الغليظة و لكنّها لم تستطع فصفعتها و صحت:ـ لا
تتحرّكي يا فاجرة...سوف نتزوّج عمّا قريب ...يا خائنة...أيا
بنت الكلب...و غرزت أصابعي و أظافري في عينها اليمنى حتّى
اقتلعتها فصرخت و كادت تفلت من يدي و لكنّي أمسكتها بيد من
حديد و غرزت أصابعي في عينها الأخرى و اقتلعتها من الألم و
القهر هي الأخرىو أنا أصيح:ـ لن يحبّك أحد بعد اليوم...لن
يحبّك أحد بعد اليوم...فصاحت:ـ لقد أعميتني ...الويل لك ...ثمّ
صفعتها و تركتها لا تدري موطئ قدميها حتّى سقطت و أغمي عليها
من الألم ...فحملت عينيها بلطف في يدي و غسلتهما بتريّث و أزلت
عنهما دمها الملوّث برفق و خرجت و أنا أقول:ـسأعود إليك يا حقل
والدي الأخضر و ستعشب عمّا قريب ثمّ اتّجهت نحو الخمّارة أعبّ
الخمرة و أدخّن...
و بعد ساعتين و مع اشتداد
الظّلمة جاء البوليس ليحملني فامتثلت بكلّ أدب و كانوا يحملون
البنادق و المسدّسات و الهراوات و يشيرون بها في وجهي و على
صدري و يصوّبونها نحو كلّ عضو في جسدي و لكنّني لم أخف منهم و
تحسّست جيب سترتي ...و سرت و أنا أداعب عينيها بأصابع يدي
الغليظة و مضوا بي نحو السّجن.... |
ملاحظة :نشرت
هذه القصّة القصيرة في مجلّة قصص التي يصدرها "نادي
القصّة"النادي الثقافي"أبو القاسم الشابّي" ص ص 118-121 ع
81-82 جويلية ديسمبر 1988 تونس |
|
|