.
السّيّد "سلاموا"كهل بلغ الأربعين من
عمره عندما بدأت الأحداث العرقيّة الأولى في روندا...لم يُنجه
من جحيم الحرب المستعرة إلاّ كونه يسكن بعيدا عن ساحة الأحداث
الدّامية .أشفق على عيون زوجته"سلما"و أطفاله التّسعة من أن
ترى وجوه حاملي الأسلحة و قد عفّرها التّراب,فخلّف وراءه دويّ
البنادق و أنين الجرحى و أشلاء الضحايا المفزعة , و فرّ إلى
مكان قدّر أنّه لن تصل إليه أصوات المدافع و لا روائح الجثث
النّتنة.
كان يرفض أن يشارك في المعارك الطّاحنة
لأنّه من القلائل الذين كان لهم وضع خاصّ,إذ هو سليل أب توتسيّ
و أمّ هوتيّة , و لذلك لم يجد مبرّرا للدّخول في معمعة
الأحداث.فابتعد بعائلته,و تجنّب الحرب و عاش ممّا تغلّه قطعة
أرض صغيرة كان يفلحها بكلّ عناية و صبر.فكان يعيش في سعادة
مؤقّتة يلاعب أطفاله و يحضنهم إلى صدره الواسع كلّما سمعوا صوت
القنابل و طلقات النّار هنالك بعيدا عن مزرعته.و قد ضمّهم إليه
أكثر يوم سقطت قنبلة قرب مزرعته فأحرقت محصوله و ذهب ما أنفق
فيها من جهد سدى ...
لم ييأس "سلاموا"بل عزم على إعادة
الكرّة ريثما تنفرج الأزمة.و لكن بعد شهر بدأت المؤونة تتناقص
في المنزل,فنظر"سلاموا"إلى زوجته ثمّ قال:"ما العمل؟"
فأجابت:"ما باليد حيلة...أظنّ أنّه آن الأوان للرّضوخ إلى
الأمر الواقع". تألّم "سلاموا"في سرّه و هو يقول:"لا حول و لا
قوّة إلاّ بالله".
و عندما خفّت وطأة الحرب و سكن صوت
المدافع و القنابل و أُغمدت السّكاكين و الخناجر,قصد"سلاموا"قريته
التي غادرها. فوجئ بتجمّع النّاس في ساحتها فتساءل مقنعا
نفسه"ألا يكون تجمعهم إلاّ من أجل الطّعام؟"أراد أن يتأكّد من
الأمر فاقترب من أحد المنتضرين و سأله:"ما الأمر؟"
فأجابه:"ألست جائعا مثلنا؟أين كنت ؟"فأخبره بقصّته ثمّ
أضاف:"لقد تركت أمّا و تسعة أطفال جائعين ينتظرون أن أرجع
إليهم بما يسدّ رمقهم".عندئذ تعجّب الرجل كيف لا يزال في روندا
أطفال أحياء بهذا العدد.!
في تلك
الآونة سُمع صوت رجل عبر مضخّم الصّوت يعلن خبر إنزال
لجنة الإغاثة المؤونة بالمظلاّت...و أنّه يمكن الذّهاب إلى
المكان القريب بعد إنهاء عمليّة الإنزال مباشرة.
لم تنتظر جموع الجائعين أن يتمّ الرّجل كلامه .فأسرعت
قاصدة ضفّة البحيرة الكبرى متلهفين لاستقبال الطرود يتقدّمهم "سلاموا"فرحا
مستبشرا مصوّبا نظره نحو الطّرود النّازلة من طائرة الشحن و هو
يقول في نفسه مسرورا:"إنّ السّماء تمطر طعاما....
أخذته الغبطة كلّ مأخذ فلم ير الحجر أمامه فتعثّر
فسقط فداسته عشرات الأرجل الحافية الراكضة خلفه بكل ما أبقاه
فيها الجوع و الإنتظار و الإرهاق من قوة.لملم شتات نفسه .و
حاول اللّحاق بالجموع و الظّفر بنصيبه ,لكنّه عاد و التصق
بالأرض التي اهتزّت من تحته اهتزاز بركان ثائر فتناثرت حوله
الأشلاء ,فأغمض عينيه و قد شعر بالخطر و الخوف و راح يقول في
سرّه:"الطّريق ملغّمة...الحمد لله أنّني لم أصب بأذى لقد نجوت
من الموت.و لكلّ أجل كتاب.فليطمئنّ قلبي".
فرّ النّاجون عائدين إلى القرية ...لم يهتمّ بالأمر
كثيرا بل بقي يحملق في السّماء منتظرا الطّرود محدّدا
أماكن نزولها ...و فرح كثيرا لأنه سيظفر بالكنز
وحده ...سينفرد بالثروة النّازلة من السّماء و سيفرح أولاده و
تبرز خدودهم الشاحبة و تلمع من الشبع مع إشراقة كلّ شمس .سترقص
الزّوجة و تصول و تجول بين الموقد و الأطفال و ستتسلّل روائح
الطّعام أخيرا إلى أنوفهم الصّغيرة و ستتمتّع عيونهم بألوان
المآكل و سيجمع حطبا كثيرا يسمع طقطقته تحت القدر و هو يعزف
سمفونيته الرائعة كلّ يوم.
خُيّل إليه في نشوة فرحه أنّ صوتا يهمس في
أذنه أن انهض و استمتع بالكنز الدي ينتظرك ... قم و أسعد
عائلتك...
همّ "سلاموا"بالوقوف لكنّه عاد و التصق
بالأرض التصاقا.....
و في المساء عاد أفراد القرية في حذر
إلى أماكن الطّرود...و حملوا معهم "سلاموا"و استدعوا زوجته و
أولاده ثمّ سلّموهم طردا ثقيلا.قال الحمّال في نفسه بعد أن
أدخل الطّرد إلى كوخ العغائله الحزينة:" لو رأت " سلماّّ"هذا
الطّرد و هو يقصم ظهر زوجها لما قبلته.
أنجزت هذه القصة بالتعاون مع
تلاميذ نادي الإبداع بالمدرسة الإعدادية بمنزل جميل السنة
الدراسية96ــــ97 و نشرت بمجلة الإبداع عــ1ــــدد التي
أصدرتها المدرسة آنذاك
|