جنازة الطّفل الذي مات...

   .     كانت شمس الزّوال تحرق سحنتي و أنا أسير في آخر الطّابور مطأطأ الرّأس عطشان ملتهب الدّماغ و الكبد . و كنت أحسّ أنّ معطفي الخشن يخنقني رغم أنّ الفصل شتاء.فقد انتظرت طويلا أمام الجامع حتّى صُلّيت الجمعة و العصر  و الجنازة. و سير بالنّعش...
         لم تكن تلك  المرة الأولى التي أشيّع فيها جنازة . و لكن كانت ىالمرّة الأولى التي أفكّر فيها و أنا أسير خلف نعش....أنا أعشق السير خلف جثث الأموات..فأمس فقط شيّعت جنازة امرأة يظنّ الكلّ أنّها في الجنّة...و لكنّني متيقّن من أنّها تسبقني إلى الجحيم.لقد ابتسمت أمس و أنا أتبعها محمولة على الأكتاف حتّى وكزني أحدهم و هو يقول بحدّة و خشوع :"اتّق الله يا سعيد ...إنّها الجنازة...."فلم أتمالك نفسي بل ضحكت حتّى بدت نواجذي السوداء المسوّسة من الخمر و الدخان .فبُهت النّاس . و استغفروا الله . و أسرّوا غيظهم لأنّني كنت مقرّبا من السّلطان إذ كنت أعدم المتّهمين و بعض الأبرياء و المجرمين بالكهرباء. و قد أستنطق به المساجين أحيانا...و كنت مع ذلك محترما يخشاني النّاس....
        كنت أسير متثاقلا أكاد أضحك. فقد بدت لي مدفونة أمس عريانة  هي حوّائي و أنا آدمها.
         و لعلّني حين ولجنا باب المقبرة ضغطت على عينيّ حتّى احمرّتا كأنّني أبكي الطّفل الميّت الذي يسبقني.ثمّ عاودني  التّفكير فتراءى لي الميّت يلتقط الكرة من القلتة التي سقط فيها سلك الكهرباء القوي  و أهمل أيّاما و أيّاما و أيّاما . و شاهدت صورته أمامي هامدا أزرق الشّفتين فاتحا فاه.
          لم ينقطع حبل الخيال إلا حين قُرئت  الفاتحة . فرأيت الحفرة الفاغرة تتلقّى الطّفل ثمّ توضع عليه اللّحود و تُغلَّقُ فتحاتها و شقوقها بالطّين و الأعشاب و بقايا الجريد .و تُوارى بالتّراب .و يُصنع قبر متناسب مع حجم الغلام المراهق  ليرحّم عليه و يُدعى لأمُه بالصّبر...
         و بعد ذلك انتظر النّاس  أن أصطفّ مع ىمن يتقبّلون  التّعازي . و لكنّني سعيت خارج المقبرة و ثيابي مغبرّة  و المعزّون مندهشون  من فعلي...و كان كلّ من رآني على تلك الحال يأسف لما آل إليه أمري . فيقول:"المسكين لقد جنّ على كبده" ثمّ يدعو لي بالصّبر و السّتر... و لقد سمعت آخر يقول :"لقد جازاه الله  على ضحكه أمس في جنازة المرأة التقية النّقيّة الوفية رحمها الله..." و هذا ما ألهب دماغي فصارت تغلي كالمرجل ...و كان الحرّ لا يطاق... و كنت عطشان  صد فأسرعت ...و ظُنّ بي الجنون...
       دخلت الدّار فألفيتها سوادا في سواد  و وجدت  امرأتي  مع المعزّيات . فأخذتها من زندها في غير لطف . و انطلقت بها إلى غرفة نومنا و النّساء فاغرات . و الحرارة تأكلني  و قد فقدت عقلي تماما...
     دخلت الغرفة  و خرجت من معطفي الأسود و ثيابي العفنة و هي تنظر و تنتظر ما أفعل  في وجوم. فمزّقت رداءها الأسود فتمنّعت و هي تقول:" عيب ...عيب ...يا سعيد ...ابننا لمّا يرتح في قبره"فقلت :" و لذلك أسرعت يا صبيحة : و أقسمت عليها بالطّلاق ثلاثا إن لم تجبني إلى مواقعتها السّاعة. فاستسلمت على غير رضى فقبلتها عضوا في عضو  و لاطفتها و ةصرنا مخلوقا  جديدا له ظهران...
        و بعد أن رويت قلت لها و رأسي على صدرها المكوّر  الرائع تجسّها برفق بأصابع رخصة على غير عادتها:" لا تحزني يا صبيحة فإنه لا يموت بالكهرباء سوى ابننا ...و السجناء المساكين و الأبرياء....."ثمّ نهضت . و استويت و أنا أقول :" لئن جرف تيّار الباطل و الإهمال ابننا فسوف لن يجرفنا  و سوف لن يأخذ الموت تلك البذرة التي زرعتها فيك السّاعة ...يا حرثي المغلال ...سوف لن يفتكّ القدر بذرتنا ...إنّه عاجز عن ذلك إنّه جبان ...جبان....جبان ...جبان"و بكيت بكاء لم أبكه في حياتي قصّ و أنا أقول لقد مات ابننا المظلوم بالكهرباء يا صبيحة" فبمت ثمّ قبّلتني . و لبسنا البياض  في تأنّ و تفنّن .ثمّ خرجنا  للحياة من جديد. و قد تعلّقت زوجتي بيدي اليسرى و بيدي اليمنى رسالة استقالتي من مهنتي.

قصص أخرى
أحمد
خضراء الدّمن
الحذاء الأحمر
يحيا الملك ...يعيش الملك
جنازة الطّفل الذي مات
المطارد
الطّرد
قصص للأطفال
الحمار هي هان
القط بش بش
الثّور الشّهيد
من أنا؟
تعريف
قصصي
أشعاري
مسرحياتي
تحقيق
ترجمة
دراسات
مواقع

الصفحة السابقة

طبع الصفحة

الصفحة الرئيسية | صور | غابة الرمال | الفضاء | التاريخ | من أنا؟ | عائلتي | عائلات منزل جميل | المعالم الدينية | أمثال و أقوال | المنظمات و الجمعيات | المؤمسسات | الثقافة و الفنون | ناس مروا | المتحف | راسلونا

Copyright 2012©2014 leplacartuel.com