في ليلة العيد:
آخر يوم من رمضان، خرجت مع زوجتي لشراء حذاء العيد. كانت
المدينة غاصة بالساهرين؛ خصوصا, بعد أن سمعوا المفتي يعلن ثبوت
رؤية الهلال. كانوا فرحين يأكلون ويشربون في جذل و يثرثرون
بصوت مسموع، و كان الأطفال سعداء يجرون و يقفزون و يتفرجون على
كل ما هو معروض، و يطلبون من آبائهم شراء كل ما تراه أعينهم أو
تشمه أنوفهم أو تمسكه أيديهم الصغيرة الناعمة.
وقفنا أمام كل الواجهات المليئة بشتى أصناف المبيعات و أخص
بالذكر الأحذية، دون أن أعرف ما يدور في خلد زوجتي؛ ;إذ لم
يعجبها أي حذاء من الأحذية المعروضة بأناقة و ذوق.
أشرت إلى حذاء بني أعجبني و قلت في سرور:
هذا...فهزت كتفيها ثم جذبتني من يدي بلباقة و هي تقول:
ما أعجبني... كدت أغضب لو لم تضغط على يدي اليسرى لتنبهني و
فهمت أكثر عندما وصلني صوتها ـ أهلا هدى؛ كيف الحال؟ـ
سلمت على هدى. ثم راحتا
تثرثران حول الشغل و التلاميذ بينما طفقت أنظر ببلاهة إلى حذاء
صديقتها فألفيته أسود جميلا يتماشى مع فستانها الجديد. و كم
تمنيت أن تشتري زوجتي حذاء أسود مثله حتى تريحني من البحث و
التفتيش عن هذا الحذاء الذي لا أظن أنها ستجده فبل أن نسقط من
التعب.
استاءت زوجتي لما نظرت هدى إلى
بطنها بحزن و إشفاق. فأسرعت بإتمام اللقاء. ثم واصلنا بعضهما
كلمات مكررة و تمنتا لبعضهما عيدا سعيدا. ثم واصلنا
طريقنا باحثين عن بغيتنا .
وقفنا أمام
واجهة
مغازة ألبسة
للرضع؛ فأطالت زوجتي الوقوف و التحسر... قرأت ذلك في غضون
وجهها. أنا أحس بما تفكر فيه... و لذلك أنا حزين جدا و أرثي
لها و أصبر عليها و ألح في الصبر.
سرنا طويلا في الواجهة طويلا إلى أن
جذبتني من يدي و هي تتنهد: - هيا بنا...
سرنا طويلا . و بحثنا في كل المعروضات التي وجدنا
ها تشبه الأحذية. فلم يعجبها الحذاء الأبيض و لا ا لأسود و لا
البني و لا الأخضر و لا البنفسجي و لا أي لون آخر.واصلنا البحث
فلم يرق لها الرخيص الثمن و لا المتوسط الثمن و لا الغالي. ثم
واصلنا البحث فلم تحفل بالحذاء المصنوع في تونس و لا المستورد
من الشرق و لا المصنوع في فرنسا و لا إيطاليا و لا في أي بلد
من بلاد الدنيا. ؛ لست أدري ما الذي يدور برأس هذه المرأة !
قلت بعد أن سرنا و
سرنا دون ملل أو فتور :- حبيبتي،، أ لم تتعبي؟ فقالت بهمة :-
لا ؛ حتى أجد الحذاء ... فنبهتها:بإصرار:- لن أعود إلا
به.فنبهتها:- سوف يفوتنا موعد الطبيب.
آه نسيت أن أخبرك أننا على موعد فنحن
نقصد الطبيب لعلاج أسباب تأخر الحمل رغم أننا متزوجان منذ
سنتين. لم أكن ألح في الذهاب بل هي التي كانت ترغب في ذلك و
تحرص عليه كل الحرص، و لقد كلفنا ذلك مالا كثيرا فالطبيب شره و
زوجتي لا تني تبحث عن أمل تتعلق به...و قد أخبرها أنه يوجد
أمل. و لم يبخل علينا بالنصائح ؛ غير أن الحمل لم
يقع . صرت قلقا على مصير زواجنا؛ و متعلقا بالطفل الذي لا يدل
شيء على قرب مجيئه؛ و لا يبشر منظر الطبيب في كل مرة بإهلاله
علينا.
لم أمل و لم أنزعج
أو أزعج من يحيطون بي بل انهم هم الذين أزعجوا زوجتي و أساؤوا
إليها أحيانا من دون أن يقصدوا. فأظهرت حسبالأمر.طة.و انشغلت
بالأمر. و كادت تتدهور صحتها و تفسد علاقاتها بالآخرين لو لم
أترجها أن لا تعير كلام الآخرين اهتماما. فصبرت و صبرنا بعد أن
كرهت الأطباء و الأدوية و المواعيد و الناس المحيطين بنا.
كنا كغريقين أقنعتها
بالعودة إلى الطبيب. كنا كغريقين وجدا حبل نجاة ؛
أنا أشد طرفه من جهة و زوجتي تشده من الجهة الأخرى . و
كان حبل النجاة غير مشدود إلى سفينة. و كدنا نغرق لو لم يصل كل
واحد منا إلى الآخر لأننا كنا نشد حبلا واحدا. فتعانقنا ؛ و
بكينا بحرارة . و طلب كل واحد من الآخر أن يصبر و أن يعينه
على الصبر. ثم سبحنا إلى شط النجاة. و صبرنا على أذى الموج. و
آمنا أنه لن ينجينا أحد.
رحماك يا بني الذي لمّا
يأت ! عجِّل بالمجيء إن كنت آتيا. يا رب. إن لم يكن لنا حظ في
الأولاد فهبنا صبرك نصبر. رباه أعنا.
وصلنا أمام مغازة الحذاء الذهبي
تعبين. فجرت زوجتي مثل طفلة و هي تهتف بتلقائية و فرح: - هو ذا
هو ذا؛ ما أحلاه...
حمدت الله في سري و أنا أنظر
في الواجهة المتلألئة بالأنوار و الألوان ثم قلت: - أيها
تقصدين حبيبتي. فأشارت بسبابتها: - هذا...
-
البني ؟
- لا، البني لا...
صاحت:لى الذي بجانبه و قد شد انتباهي مذ وصلنا؛ ثم قلت:
ذاك الذي فوقه بين الأبيض و الأسود و سعره خمسة و ثلاثون
دينارا. فصاحت : لا ، الذي بجانب الأسود. هذا،ثم نظرت
إليها و أنا أقول بامتعاض: " الأحمر !
هذا ، أ من ...؟ " - نعم، و أنا أدفع ثمنه.
-
و الله لن تلبسيه ما دمت زوجتي؛ فأنا يصيبني القرف عندما أرى
حذاء أحمر... و لا أنظر إلى اللاتي يلبسن الأحذية الحمراء إلا
بريبة... لا. تلبسه زوجتي... لا ... هذا غير معقول !
غضبنا و أضمر كل واحد منا ما في نفسه لأننا بدأنا نثير انتباه
المارة. و أسررت الأمر ريثما نعود إلى المنزل. فقلت لها
و أنا أرفع كتفي بفتور وغيض: - سنرى.
فقاست الحذاءمحل. فقاست
الحذاء . ثم دفعت الثمن. و حملت البضاعة فرحة, مستبشرة
كأنها تحمل طفلنا المنتظر. و اتجهنا نحو عيادة الدكتور عبد
النور... في الطريق لم أكلمها و أبديت غضبي و عدم رضاي و لذلك
لم يوجه أي منا الكلام إلى صاحبه... كانت فرحة بما تحمل كطفلة
تحمل دميتها بينما كنت أتميز من الغيظ غير مرتاح... ففي دماغي
أمر لا يريد أن يخرج أو يتغير على الأقل و تلك خطيئتي الوحيدة:
فأنا حين أحشر في دماغي فكرة يعسر علي إبدالها بغيرها أو حتى
التنازل عنها إلى غيرها و لو مؤقتا. و في مثل هذه الحالة كنت
أقول: - إذا ما تنازلت مرة فسوف تضطر إلى التنازل في كل مرة.
غير أنني رضخت اليوم لمشيئتها فكيف تنازلت هذه المرة و قبلت و
أنت أشد الناس مقتا للأحذية الحمراء؟؟
كانت سمعة الأحذية الحمراء منحطة بالنسبة لي و لست أدري
السبب. و كم مرة قلت لزوجتي: إنني لا أحب الأحذية
الحمراء. فلم تلبسها مذ تزوجنا إلى الآن و مع ذلك فقد أصرت
اليوم على شراء هذا الحذاء الأحمر الملعون الذي
سوف يعكر حياتنا.
في الحقيقة، أنا أخاف اللون الأحمر القاني؛ فدم كبش
العيد أحمر قان. و أنا لا أحب منظر الدم و لا منظر الضحايا.
أنا أعيش في رعب بسبب ذلك. يا إلهي، إنها لا تفهم؛ مخها ناشف !
كم مرة لمحت إليها أن هذا اللون لا يعجبني... و كم مرة قلت
لها: لا تشتري أبدا حذاء أحمر؛ لكنها اشترته؛ تمردت علي و
اشترته رغم أنها تعلم أن سمعة الأحذية الحمراء في الدرك الأسفل
عندي. !
***
استقبلتنا سكرتيرة الدكتور عبد النور. و
طلبت منا الانتظار بعد ما أمرت زوجتي بشرب الكثير
من الماء . ففعلت. و عبت الماء عبا حد الارتواء. فأكملت قارورة
فأكملت قارورة الماء المعدني سعة لتر و نصف. و بقينا ننتظر...
شربت القارورة كلها. فهي فيي أين وضعتها أو من يشرب معها. فهي
في العادة لا تقدر على شرب كأس ماء عادي . فكيف
شربت قارورة كاملة ؟ لعل فرحها بالحذاء الأحمر اللماع
جعلها تفعل ذلك ...
و إذا ما أردت الحقيقة فقد كان حبها للأطفال يدفعها
إلى الكثير من التحديات. و قد وضعت ذلك فوق كل اعتبار. و كرست
حياتها من أجله خصوصا منذ بداية السنة الجديدة من زواجنا حين
تأخر طمثها أسبوعين كاملين. فلما عاد الدم ضاع الأمل في الطفل.
امتلأت مثانتها و لم تعد تستطيع
إمساك ما بداالأمر.لبت من السكرتيرة أن تدخل بعد أن شرحت
لهاالأمر.. لكن هذه الأخيرة اعتذرت رغم أنها رأت ألمها و
عذابها مدعية أن دورها لما يحن.
ـ انتظري دورك مثل البقية... قالت ذلك و هي تدخل دورة
المياه ضاحكة.
دخلت زوجتي قاعة الانتظار المواجهة للغرفة الصغيرة المخصصة
للرجال الغيورين الذين يصطحبون زوجاتهم. و طلبت من المنتظرات
السماح لها بالدخول قبلهن. و شرحت لهن الأمر باقتضاب. فــران
الصمت. والتفتن إلى بعضهن. ثم عدن إلى الثرثرة من جديد, و كأن
زوجتي لم تطلب منهن شيئا أو لعلهن لم يسمعنها.
خرجت زوجتي متألمة. و بقين بضع دقائق
خشبتين.و بعد بضع دقائق، اصطحب الطبيب زبونة. فانتبهنا.فحصه
لاستقبال زبونة ثانية كعادته. فانتبهنا . و بعث فينا الحركة.
فالتفتنا باتجاهه فقال: ـ أهلا بالمسيو...! ثم نظر
إلى زوجتي المتمسكة بلفافة الحذاء الأحمر بين يديها و هي تتألم
في صمت و إصرار و قال: ـ أنست بالمدام...! فدخلنا.ا يتطلب
الموقف من لباقة و لما لم يجد السكرتيرة إذا به يقول تفضلا.
فدخلنا . و أغلقت الباب و أنا أسمع خلفي زوبعة من التعاليق و
الاحتجاجات في قاعة الانتظار المجاورة !
فحص الدكتور زوجتي ثم ابتسم و
هو يقول: ـ مبروك مدام... مبروك مسيو...... لقد وصلنا إلى
نتيجة، بفضل اتباعكما النصائح بدقة و حرص.!! شكرنا الدكتور ثم
تابعنا مراقبة قلب الجنين و هو ينبض بفرح لا يوصف... كان صغيرا
صغيرا كحبة عدس... تعلو و تهبط في رقص رائع... ضحكنا من قلبينا
و أنا أدفع إلى الدكتور أجرة الكشف ثم التفت إلى زوجتي في
سعادة غامرة و أنا أقول: الحذاء الأحمر وحم... إنك
تتوحمين.
تعجب الطبيب. و طلبت
نظراته المحتارة تفسيرا. لكننا خرجنا يمسك كل منا بيد الآخر
كعاشقين سعيدين بتجدد اللقاء... لقد كانت خائفة مرعوبة مثلي و
لكنها الآن تتحدى العالم و الناس و تغزوه من جديد...و عندما
وصلنا إلى باب العيادة سمعنا السكرتيرة تنادي بأعلى صوتها:ـ يا
مسيو لقد نسيتما شيئا... التفت إلى مصدر الصوت و أردت التراجع
لأخذ الحذاء الأحمر حتى تسعد زوجتي بارتدائه و تستمتع بلونه
الأحمر القاني...و غادرناجذبتني بلطف و إصرار ثم تعلقت بيدي
كطفلة و هي تقول بصوت مسموع: ـ حبيبي لا يحب الأحذية
الحمراء... و غادرنا العيادة و كأننا ولدنا من جديد,. |