النّقاب أو العري

     حين أخبرني أحد الأصدقاء أنّه لم ير في مكّة منقّبة تؤدّي مناسك الحجّ,استفزّني و دعاني إلى عمق التّفكير و النّظر فكيف يعقل أن تبرز المرأة وجهها و كفّيها في أكبر حفل إسلامي في العالم يجتمع فيه الأجانب رجالا و نساء تكشف فيه الوجوه و اللأكفّ...دون أن يكون ذلك داعيا إلى الخوف أو التّذمّر ...
     قد يكون جواب البعض هم يؤدّون شعائرهم  و لا يهتمّ أيّ واحد بجمال أنثى و لا جسد رجل و كأنّهم قد ماتت فيهم الغرائز فباتوا متمحّضين للعبادة و النّسك.
     في رأيي أنّ الاجتماع البشريّ مشروط بالتّنازل عن الحرّيّة التّامّة ...و الحرّية التّامة في رأيي ذات اتّجاهين متناقضين .فإمّا أن تكون في اتّجاه العري التّامّ و بذلك نعود إلى الحيوانيّة و البدائيّة الأولى.و إمّا أن تكون في اتّجاه السّتر التّامّ و بذلك ندرك الإنسانيّة و المغالاة المفرطة و كلاهما حريّة تامّة و لا سبيل إلى نقاش هذه النّقطة لأنّنا لن نصل إلى نتيجة ممكنة إذ لكلّ من الطّرفين الحقُّ في ممارسة ذلك بشرط أن يبتعد عن المجتمع البشريّ فيعيش وحيدا فريدا ضمن حدود بعيدا عن الدّولة و القانون ...اللهمّ أن نتّفق جميعا على قبول  شكل من الشّكلين سالفي الذّكر فنقبله و نعيشه و نتبنّاه و لا نرى فيه ضيرا. و بذلك نغيّر القوانين المعمول بها بالتّمرّد عليها و إلغائها و هذا ما يقع.و ذاك هو السّكون الذي نفته الحياة و ردّته و لم ترض به لأنّه من الشّيطان . الأول عيش في سالف الزّمن و الثاني سكون يعاش في مجتمعات سكونيّة فيها من الجدّة  و الحركيّة المؤقتة الكثير و لذلك أثارت المسألة المجتمع و حرّكته و هذا جميل لأنّ الجليد الذي ران على الحياة بدأ بالذّوبان و لكن بالعودة إلى نموذج موجود.
      أمّا خلاف ذينك الموقفين فهو الأمر الوسط الذي يحرّك المجتمع تحريكا خفيفا و يغيّره تغييرا طفيفا من حين لأخر فيبثّ فيه الحيويّة و النّشاط .فتغيير التّزيّي هو الذي يدخل روح التّجدّد في المجتمعات.و محافظتها على لون واحد من الأزياء تسمّيه اللباس التّقليديّ أو الشّرعيّ أو الرّسميّ أو غيره يمثّل الجمود و السّكون و القديم الميّت يحاربون الموت ببعثه من جديد فهم بذلك يعوذون بالأموات و يعودون في حركة دائريّة إلى نفس النّقطة نقطة البداية لكن في زمان مختلف.في حين نرى أنّ الدرجة(=الموضة)تطمح إلى ما هو غير موجود و لا مستقرّ من طرق التّزيّي و طرز تغطية الجسد و تزيينه.ففي كلّ يوم ثوب جديد و في كلّ فصل لون مميّز و في كلّ سنة تفصيل و إبداع به تتجدّد الحياة قبل أن يتكلّس و يضجر منه المبدعون و يتجاوزه الفنّانون.
      ما يقتلنا و يجمّدنا إنّما هو الإلف و العادة و ما يقتلنا أكثر إنّما هو العودة إلى سالف العهد و الأوان فنجد في ذلك الرّاحة و السّلوان فنفرح بالعيد و لبس الجديد و نسعد بالعودة إلى الماضي و تكرار ما هو موجود أو استيراده من الغير دون إضافة أو إبداع .
       النّقاب ليس غريبا عن مجتمعنا كما يظنّ البعض.فالنّساء في بلدتي كنّ يستعملنه إلى زمان قريب .و منهن أمّي رحمها الله التي كانت تغطي وجهها مع لبسها السّفساري بغطاء أسود تضعه على رأسها و ينزل على صدرها إلى حدود السرّة فترى من خلاله العالم و لا يراها أحد و يسمّى ذلك الغطاء عندناّ "تقريطة التّعجير" فهو مِعجر طوله خمسون صم و عرضه ثلاثون.يربط في أعلى الرأس بسلك مطّاطي يسهل ارتداءه.و لا تظنّوا أنّ المرأة عندنا تسمح لنفسها بارتدائه كلّ يوم بل هي تضعه في أوقات معلومة عندما تتخذ زينتها أو تكون ذاهبة إلى العزاء أو الحمّام.و الفرق بينها و بين المنقبات اليوم أنّها عاطلة عن العمل أمّيّة غير متعلّمة لا تشارك في المجتمع الخارجيّ و لا دخل لها في السّياسة و لا الاقتصاد و لا الثّقافة.لا أعرف عنها أنّها كانت تلتزم بلبس النّقاب في كلّ أوان و خصوصا عندما تقدّمت بها السّنّ و لكنّها كانت تحبّ لبس الفساتين الجميلة بتفصيلها البسيط الأنيق عندما يرسل إليها أحد أولادها المهاجرين قصّة قماش لا يظفر بمثلها إلاّ من كان له ابن أو أخ أو زوج مهاجر في فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو غيرها من بلاد الله.
         صار النّقاب اليوم مشكلة سياسيّة و اجتماعيّة لأنّه مقبول إن التزمت به امرأة لا مشاركة لها في المجتمع قد انقطعت عنه و وضعت حاجزا بينها و بينه.أمّا إذا رغبت في العيش فيه فلا وجه لرفضها كشف وجهها فهل الأخر غول مفزع أو شيطان رجيم أو غريب مهدّد للكيان و الوجود.


الأستاذ محمد الهادي الكعبوري                         منزل جميل                في 17جانفي 2012
  Partager

دراسات و أفكار
 موضع غابة الرمال في التراث
المدينة و تراثها في الشعر العربي
تاريخ الصيام
الصيام و الحرمان 
موقف من الحجاب
ضرب المرأة
الأنثى في ديوان "قصائد من تحت الأنقاض" للشاعر نجيب بن علي
شاب أحرق بلدا
الثورة التونسية
تقبّل موت حاكم قرطاج
الآن توضحت الصورة

بين حرّيّة التّعبير و قداسة الذّات الإلهيّة

هل الثورة حاالة مؤبّدة؟
النّقاب أو العري
تجديد فهم الإسلام
لماذا لا تكون الشرائع مقدّسة إلاّ بوجود الأنبياء و الرّسل؟
هل النّساء وحدهنّ ناقصات عقل و دين؟
في المعنى اللّغويّ للخلافة
من أنا؟
تعريف
قصصي
أشعاري
مسرحياتي
تحقيق
ترجمة
دراسات
مواقع

الصفحة السابقة

طبع الصفحة

الصفحة الرئيسية | صور | غابة الرمال | الفضاء | التاريخ | من أنا؟ | عائلتي | عائلات منزل جميل | المعالم الدينية | أمثال و أقوال | المنظمات و الجمعيات | المؤمسسات | الثقافة و الفنون | ناس مروا | المتحف | راسلونا

Copyright 2012©2014 leplacartuel.com