بين حرّيّة التّعبير و قداسة الذّات الإلهيّة

             طالعتنا قناة تلفزة نسمة  يوم الجمعة 7 أكتوبر 2011 بفلم كرتونيّ للمخرجة الإيرانية "مارجان ساترابي" عنوانه "بلاد فارس" وقع فيه تجسيم الذّات الإلهيّة في صورة شيخ ذي لحية طويلة بيضاء.فقامت الدّنيا و لم تقعدْ دفاعا عن المقدّسات و عن الذّات الإلهيّة التي مُسّتْ و الحضرة الربّانيّة التي انتُهكتْ. و هذا أفزعني كما أفزع شريحة عريضة من المجتمع . و نظر كلّ واحد من زاوية تختلف عن زاوية نظر الآخر.و الغريب أنّ أكثر من واحد أخبرني بمشاركته في التّنديد بالقناة و الفلم رغم تأكيدهم أنّهم لم يشاهدوه.؟!!!!!!؟؟؟في البداية كنت أشاطرهم الرأي في ما ذهبوا إليه من أنّ توقيت عرضه غير مناسب نظرا للوضع الذي تمرّ به البلاد.و لكنّني حين فكّرت وجدت أنّ توقيت عرض الفلم مناسب جدّا لكنّ ردّ الفعل مبالغ فيه,إذ أنّ المسألة في صميم ما يجب أن يخوض فيه المترشّحون لكتابة الدّستور العتيد فالأمر يهمّ قيمة الحرّيّة التي أراها أسمى القيم على الإطلاق.فهل نحن ذاهبون إلى عصر جديد نمارس فيه حرّيّتنا التي افتقدناها أم نحن على أبواب عصر آخر ستصادر فيه حرّيتنا مع جلاّد جديد يكبّلنا و يُلْبسنا ثوب الذّلّ و الصّغار و الخنوع باسم الرأي الواحد و العقيدة الواحدة بدلا عن الحزب الواحد و ونظام الحكم الواحد؟ و هل نحن أمام ما وقع ندافع عن صورة إله قديم ناقص؟ أنا في حيرة من أمري أبحث عن شفاء لغليل الإجابة.فهل من حقّ أيّ كان أن يصادر حقّي في الفرجة على أيّ إبداع بله إنتاج أيّ شكل من  أشكال الإبداع أقول فيه ما أريد وقتما أريد و كيفما أريد؟ و هل من الحكمة أن أمنع بثّ أيّ فلم فأزيده شهرة بدل أن أنتج فلما أبدع منه يعالج نفس الموضوع بمنظوري أنا و بأهدافي أنا و بعقيدتي أنا يخلّده التّاريخ و يكون لنا عيدا؟و هل يجوز لي أن أقف في وجه الإرادة الإلهيّة و المشيئة الرّبّانيّة إن هي أرادت لهذا المخلوق أو لذاك أن يكون على شاكلة معيّنة؟ و ما هي حدود العنف في كلّ ذلك؟
       أرى أنّ ما جرى يرتبط برؤية للعالم و فهم للوجود و تمثّل للإله مشوّه في كلّ الحالات فالإله الذي صوّر ليس هو الله بل الإله الذي يتمثّله كلّ طرف من الطّرفين لأنّ الله هو جماع كلّ ذلك في ذات اللّحظة و في ذات المكان بل في كلّ لحظة و في كلّ مكان و لكنّنا محكومون بالتّعاقب محاطون بالتّجاور مبتلون بالتّعدّد و الانشطار  و تمثّلنا للإله لا بدّ من أن يعتريه شيء من كلّ هذا ...أظنّ أنّني أمارس ترفا فكريّا لا يستطيعه من به جوع و ألم و شهوة أو نقص في الحسّ و الثقافة و العلم.
      إنّ الإله الذي صوّره الفلم ليس هو الإله الحقيقيّ و لا يمكن أن يكون بل هو مجرّد صورة فوتوغرافية لم تدّع يوما أنّها الله _تنزّه الله عن ذلك و تبارك و تعالى علوّا كبيرا_و لكنّها مجرّد تجلّ فرديّ شخصيّ يشوبه النّقص و يعتريه الكلال و يتخلله القصور . و نحن أنفسنا لا يمكننا أن نؤمن بإله ما قبل أن نمرّ بهذه المرحلة من مراحل التّجسيد فهي ضروريّة للتمثّل قبل التجريد. و هذا التّجريد مستحيل على الإنسان لأنّه لا يصل إليه أبدا و ذلك لأنّه يرتدّ إلى التّجسيد فإن هو أراد التّفكير هل يمكنه ذلك بدون اللغة التي تجعل الإله كلمة و عبارة و لفظا؟؟؟و كذلك الشّأن في السّينما و الرسم و النحت و سائر الفنون لا بدّ من مادّة و تجسيم . و لعلّه لذلك اختار الكثير الصّمت و الغياب و الهروب و الانتحار عندما عجزوا عن إدراك ما لا يمكن إدراكه و الوصول إليه.في الواقع لا يوجد نصّ صريح يمنع تصوير الإله في فلم و إنّما ذلك تقليد قديم سابق موروث عن الفترة السّابقة للإسلام.فالإله إيل عند هؤلاء لا يُرى و لا يرسم و لا يجسّم لأنّه لا تدركه الأبصار.و الجاهليّون لم يُصوّروا الله و لم يجسّموه على خلاف الآلهة الأخرى التي تُصوّر و تنحت لها الأصنام و تركز لها الأنصاب  كاللات و العزّى و مناة و هبل و غيرها من الآلهة .فهذه الأخيرة لها شكل و صورة بينما الله لا شكل له و لا صورة عندهم . و نحن مارسنا نفس التّقليد الذي ورثناه عن القدامى بل أضفنا له مجموعة  جديدة من المحرّمات  و الممنوعات اخترعناها رغم أنّه لا يوجد أيّ مانع من ممارستها فالصّحابة رضوان الله عليهم و زوجات الرسول صلى الله عليه و سلّم و الأنبياء و المرسلون عليهم السّلام اخترنا أن لا نصوّرهم في الأفلام و استحسنّا ذلك بل ذهب البعض إلى تحريمه جملة و تفصيلا.و حقيقة الأمر أنّنا في رفضنا لأيّ عمل فنّيّ  ندافع عن المقدّسات التي اخترعناها و الممنوعات التي ألزمنا بها أنفسنا و المحرّمات التي كيّفنا على أساسها حياتنا . و تتأتّى الحيرة من عدم قدرة العقل البشريّ المحدود على جمع هذه التّمثّلات المتعدّدة و شتّى التّصوّرات المتنوّعة فلا يمكنه فهمها إلاّ فرادى عبر التجسيم و الحصر و التّشتيت . و تلك هي حدود الفكر البشريّ و ضوابطه في ما توارثناه من خبرات و معارف و علوم.و نحن نتوق إلى مثل ذلك الجمع و التّركيب و التّصوّر المثاليّ و لكنّنا في بلوغ الكمال مقصّرون و عن الوصول إلى ذلك عاجزون. و لهذا السّبب نأخذ مكان الله في التّسيير أو هكذا نظنّ.
و ما قام به البعض إنّما مأتاه تقصير في إدراك الذّات الإلهيّة  فهل الله غائب حتّى نأخذ مكانه ؟ و هل الله عاجز حتّى ندافع عن صورته التي شوّهت و مكانته المقدّسة التي انحطّت؟ أم نحن ندافع عن إله غيره؟ فإن كنّا ندافع عن إله غيره فأنتم على غير الهدى و الصّواب و إن كنتم تدافعون عنه فأنتم مخطئون أيضا و ضالّون لأنه تعالى لا يحتاج منّا إلى ذلك.اللهمّ أن يكون هذا وسيلة و تعلّة لبلوغ أمور إنسانيّة تعالج في نطاق البشر و يجوز فيها الاختلاف و التنوّع أدخلنا فيها المقدّس ليكون لنا عونا وحجّة و قوّة.
الله تعالى الذي يتمثّله النّاس قد يساوي الطبيعة و يتوحد بها بل قد يفوقها و يتجاوزها .و لا شكّ أنّ كلّ واحد منّا يتخيّله على الصورة التي يراها و يرتاح لها و لكنّها ليست هو  و من هنا جاءت هذه الصورة المشوّهة التي يحملها كلّ واحد منّا له سبحانه و تعالى هذه الصّورة التي ليست مطابقة لذاته, هذه الصورة التي خرجت الجموع تدافع عنها و تحارب من أجلها.و من هنا أفهم لماذا يقاتل كلّ واحد و يموت دون هذه الصّورة .أمّا الصّورة  الأخرى التي يستحيل عليّ باعتباري بشرا فهي بعيدة نائية صعبة المنال و الإدراك .و ذاك هو إلهي الذي أومن به و أتوق إليه و أسعى لرضاه.و ذاك ما يجعلني أقبل الصّورة الأخرى التي ليست هو في لحظة تجلّ تجعل الله كلّ ذلك في نفس اللحظة و في كلّ مكان لأنّه ليس كمثله شيء فهو كلّ ذلك بالنّسبة للآخرين المجسّمين و ليس كلّ ذلك بالنّسبة للمنزّهين و هي جماع الأمرين بالنّسبة للدّارسين و الباحثين المولهين السّاعين في طريق الوجود بنقصهم و عدم كمالهم. و لعله لهذا السبب ورد في الأثر "لا تفكّروا في ذات الله بل تفكروا في خلق الله"أي لا تفكروا في ذات الله التي ينتجها التجسيم و يفرزها الخيال  لأنها ليست ذات الله التي لا يمكن إدراكها و بلوغها .و تفكّروا في خلق الله لأنه الأثر الموصل إلى إدراك كنه الألوهية و فهم معنى الربوبية.
  و لذلك نحن محكومون بأحد أمرين فإمّا أن نقبل بعضنا على قصورنا أو أن ننفجر في وجوه بعضنا  دفاعا عن صورة مغلوطة مشوّهة لموضوع لا نقدر على تحديده و تمثّله لأنّه يتجاوز قدراتنا .فلنبق في حدود أطرنا الإنسانيّة و لنعرف قدر ذواتنا و مدى نقصنا ليكمّل بعضنا بعضا دون إقصاء أو تهميش و إلاّ كنّا بلقب البدائيّة و التّهوّر و الحيوانيّة جديرين
Partager
.

انظر أيضا
دراسات و أفكار
 موضع غابة الرمال في التراث
المدينة و تراثها في الشعر العربي
تاريخ الصيام
الصيام و الحرمان 
موقف من الحجاب
ضرب المرأة
الأنثى في ديوان "قصائد من تحت الأنقاض" للشاعر نجيب بن علي
شاب أحرق بلدا
الثورة التونسية
تقبّل موت حاكم قرطاج
الآن توضحت الصورة

بين حرّيّة التّعبير و قداسة الذّات الإلهيّة

هل الثورة حاالة مؤبّدة؟
النّقاب أو العري
تجديد فهم الإسلام
لماذا لا تكون الشرائع مقدّسة إلاّ بوجود الأنبياء و الرّسل؟
هل النّساء وحدهنّ ناقصات عقل و دين؟
في المعنى اللّغويّ للخلافة
من أنا؟
تعريف
قصصي
أشعاري
مسرحياتي
تحقيق
ترجمة
دراسات
مواقع

الصفحة السابقة

طبع الصفحة

الصفحة الرئيسية | صور | غابة الرمال | الفضاء | التاريخ | من أنا؟ | عائلتي | عائلات منزل جميل | المعالم الدينية | أمثال و أقوال | المنظمات و الجمعيات | المؤمسسات | الثقافة و الفنون | ناس مروا | المتحف | راسلونا

Copyright 2012©2014 leplacartuel.com