الأنثى في ديوان "قصائد من تحت الأنقاض" للشاعر نجيب بن علي

        يشتمل ديوان  "قصائد من تحت الأنقاض" للشاعر التونسي "نجيب بن علي" الصادر في طبعته الأولى عن دار الكتاب الحديث بالقاهرة سنة1431هـ2010م على إحدى عشرة قصيدة عموديّة كلها على وزن بحر المتقارب التام في 26 صفحة من الحجم الصّغير. و صورة غلافه تتمثل في نصف سفينة شحن غارقة على ساحل شاطئ الرّمال بمنزل جميل من ولاية بنزرت. و لهذه الصّورة  ارتباط متين بمضمون القصائد فهي تذكّر بمنزل جميل مسقط رأس صاحبها كما تحيل على موضوع السّفر و الموت إلى جانب إحالتها على البحر سميّ بحور الشّعر.غير أنّ قتامتها تجعل المسألة ملتصقة بالحزن و أقرب إلى المأساة.و أمّا الإهداء فقد اختار له الشّاعر عبارة "إليك" و هو نفس عنوان القصيدة الثانية من الديوان ص 7 غير أنّ هذا يبعث على التّساؤل و يدعو إلى معرفة السّر. فمن هي هذه الأنثى التي يشير إليها  الضمير المتّصل"ك"؟
    إنّ أوّل ما يتّجه إليه الذّهن أن تكون تلك الأنثى هي الأم التي افتقدها الشّاعر و لم يشبع بقربها و حنانها ففي القصيدة الأولى"رثائية لميتين"ص5 حيث الميت الأول هو الأم الميتة حقيقة و المرثيّ الثاني هو الشاعر الميت مجازا بعدما فارقته أمه.و أمّا في القصيدة الثّانية "إليك" ص7  فيتساءل الشّاعر:
أما زال أم لم يعد حبّنا         شبابا على شيب شعر السّنين؟
و يهتف في القبر هاتف روحي    و لكن ....فهيهات  لو تسمعين
فالشعر إذن هو هاتف الروح الذي من خلاله يتّصل الشّاعر بأمّه التي يكتب فيها شعره و التي منعه الموت من بث لواعج أشواقه وحنينه فيخاطبها قائلا:
يعود بك الشّوق حيث انتهينا         لحبّ تردّى بقبر حزين .
   و ربّما اتّجه الذّهن إلى أنّها أنثى أخرى غير الأمّ في القصيدة الثالثة حريق المطار ص  11 التي فيها يقول الشّاعر: 
و كان التقاء تلاه افتراق      و كان انبعاثا تلاه  احتضار
فليْت البلاط احتواني و صارت    عظامي بلاطا لأرض المطار
فليست هذه الأنثى سرابا عابرا  في المطار  يلتقي به  المسافر لحظة بل أنا أراها الأمّ و قد تقمصتها هذه الأنثى الغربية فانعدم معها مفهوما الزمان و المكان  و تداخلا و في ذلك يقول الشاعر:
تلاقت بعينيك كل الحقب       فكنت الزمان و كنت المدار
   و لو لم يكن الأمر كما ذهبت إليه  فلماذا تمنى الشّاعر أن يحتويه بلاط المطار إن لم يكن البلاط يصله بالعالم الذي فيه يلتقي بأمّه الميّتة.فلا بد من الغياب و الفراق للاتصال بالمطلق و لقاء الروح بالروح.
    فهي صورة الأمّ التي تحيا و تموت  و تبعث من جديد عبر الشعر و عبر قوة الخيال.
    هذا شأنه مع الأنثى الغربية و كذلك الأمر مع المرأة الشرقية المصرية تحديدا في القصيدة الرابعة"نجمة المؤتمر "ص13 فهو يتواصل معها فيعدّد عناصر الأنس  في جو الليل حين يقول:
أنا ثمّ أنت على مقعدين   و ثالثنا ضوء هذا القمر
و رابعنا  ليل لهو فضيع     و خامسنا  همس هذا السّمر
   و لكنّه يؤلمه فراق الأمّ التي اتّخذت من هذه المصريّة  معادلا يتواصل معه بعد غياب فيخاف ألم الفراق فيقول:
ركبت بعينيك إنّي      و تهت من الخوف قبل السّفر
و عدت كطير كسيح جريح       أسامر حزني و أرعى الضّجر
و صار بذلك همس اللّيالي  شذى ذكريات و بعض الصّور
    فسفر الحبيبة شبيه كلّ الشبه بسفر الأمّ بل هو نفسه ذلك السّفر الذي تغيب فيه الأنثى التي يرتاح إليها  و يسعد في حضورها  فينبغي أن تغيب ليسعد بها في القصيدة مثلما يسعد بذكرى أمّه التي رحلت.
    و أمّا القصيدة السادسة "غلطة مطبعيّة"ص16 فيخاطب فيها من على عرش شعره استوت و لكنها بعيدة بعدا مكانيّا و لذلك استعمل في ندائها أداة النداء للبعيد"أيا"خمس مرات متتاليات زيادة على  أداة النداء  "يا" التي ينادى بها البعيد أيضا و أنا لا يمكن أن أتصوّر  أميرة أبدع  و لا أروع  ممن يحن إلى تلك البقية من السّنين الماضية التي عاشها معها:
سنين مضت لك قد عشتها       و لمّا يزل بعد باقي البقيّه
و لا يمكن أن تكون هده الأنثى سوى الأم لأن لقاءها لا يعد بالساعات و لا الأيام و إنّما حسابه السنون . و هي الميتة التي تتوشح بالثلج ثلج البرودة و الموت حين تأتيه في المنام و في ذلك يقول:
حللت شتاء عرائس ثلج     و عند منامي أتيت إليّ
فلا غرابة  أن يكون غير أميرته غلطة مطبعيّة
أميرة شعري و غيرك لسن     بشعري سوى غلطة مطبعيّة
و لذلك هو يتألّم و قد زادت هاء السكت" ـــهْ" ألمه قوة و تأوّهه فجيعة
      و القصيدة ليست مصدر تأوه و تألّم  فقط و إنّما هي أيضا مصدر سعادة و تنفيس و تعويض عن الحرمان  بل القصيدة هي معادل الأمّ في هذه المجموعة الشعرية . و لعلّه لذلك اختار القصيدة العموديّة شكلا لا يروم عنه ابتعادا فلم يجرّب أشكالا أخرى كقصيدة التفعيلة أو غيرها من الأشكال المستحدثة  التي لا يجهلها بحكم دراسته للآداب و تخصّصه في اللغة الانقليزية و ذلك لأنّه لا يروم استبدال ما هو أصيل القصيدة العمودية صنو الأمّ بما هو هجين دخيل  كالقصيدة الحرة مثلا.
     فهو ملك تاج ملكه انكسر بموت أمه و القصيدة تاج يواسي غروره فتعوض ما انكسر و تصلحه.و نتيجة لذلك فالقصيدة الباردة هي الأم الميتة عينها و هو يحييها و يبعثها من جديد حتى لا تضيع و يبتلعها النسيان و كر الزمان و حين يحييها تملأه و تملك عليه أقطار الزمان و المكان.فهو يخاطبها قائلا:
أريدك حبّا بعرض البحار     أريدك حبّا بطول الدّهور
و القصيدة الثائرة وحدها هي القادرة على إصلاح ما انكسر و هي وحدها القادرة على بعث الموات
لماض لنا قد تردّى قتيلا      عديني بثأر جميل و ثوري
فكنه الهوى الثورة العارمه      تلظّيْ بناري  تلظّيْ و فوري
 و بالقصيدة هو يتحدى الموت و يتحدّى الفناء مثلما يتحدّى الموج عتيد الصّخور
كثورة موج يحطّ صريعا     على أنف أنف عتيد الصّخور
.بل اللحد نفسه  يثور في هده القصيدة  فيبعث الحياة و يعيد إنتاجها من جديد فتزهر نابضة
كثورة لحد إذا ما أفاق     فصار جذورا لنبت القبور
 و أكثر من ذلك هو يحمّلها المسؤوليّة حين يقول في آخر القصيدة :
 فلا ذنب إن أنت ثرت      و لكن لك الذّنب إن لم تثوري. 
!  كفاك

و يؤكّد ما ذهبت إليه  قوله الوارد في القصيدة السّابعة من الديوان ص 18 المعنونة بـ"الثّأر الجميل"
عزائي البحور و ثأري القصيد  و يا له ثأرا كمسك الختامْ
لأنّ صباحه  قد صار ضبابا  و ليله كقبر كساه الظّلامْ و قد جرحه الأقربون  و آذوه و آلموه فإذا به ينتفض و يعزّي نفسه و يثور على وضعه بالقصيدة فنسمعه يشبه نفسه في لحظة غضب مشوب باليأس و الاستسلام قائلا:
أنا صرخة توقض الليل سرّا         و صوت تردّى يهذا الزّحامْ
و في القصيدة الثامنة "قتلت الأديب"ص19 صارت الأنثى غموضا لذيذا يعرّفها مخاطبا إيّاها بقوله:
لأنت الغموض اللذيذ كأمر      عصيّ على الفهم  لا  لا يفسّرْ
بك ارتجّ شعري و هاج إلى أن      قتلت الأديب و صرت المفكّرْ
و منذ هذه القصيدة و هذا البيت  لم يعد الشّاعر متفاهما مع ذاته .فلم يعد يتعامل مع الأنثى  بقلبه و مشاعره الجياشة الفائرة بالحنين . و لعلّه دخل مع كتابة هذه القصيدة مرحلة السلو و النسيان  و العودة إلى الحياة العادية. فتخلّى عن الحزن فقتل الأديب و صار المفكّر  و يا ليته ما فعل فمنذ هذا البيت الأخير فقدت المرأة حرارة حضورها فأصبحت معبودا مدنّسا في القصيدة التاسعة"واحد و عشرون "ص 21 حين قال:
لو ارتدّ قوم عن الدّين  يوما          لكانوا عبيدا  و كنت هبل
و لئن كان ذلك أمرا مفترضا افتراض امتناع لامتناع فإن اختيار التشبيه بهبل غير موفق لأنه صنم على هيأة رجل قد سوهت يده و أبدلت بيد من ذهب . و لذلك أرى أنّ المرأة انحدرت شيئا فشيئا من قداسة الأمومة إلى دناسة العبادة الوثنية و ماديّة المرأة المشتهاة في قوله:
و ظلّت دموعك  تجري كنهر    و صدري ينادي إليّ إليّ
إلى أن تصبح في القصيدة الأخيرة من الديوان "إلى أنثى" ص 24  مجرّد أنثى نكرة و بالرغم من  جمالها و شهوتها  فهي خطيرة مخيفة لأنّها باختصار ليست الأمّ و إنّما هي  امرأة أخرى فهي آسرة  ساحرة فعلها فعل الخمر و البحر متسلّطة  بل مرعبة تقطع الرقاب في آخر بيت من أبيات الدّيوان حين قال ـ و ليست هذه النهاية بريئة البتّةـ
أسرت الجلوس سحرت النفوس    أدرت الرؤوس قطعت الرقابا
   و بناء على ما تقدم أقول حسنا فعل الشاعر نجيب بن علي حين تسرّع في إصدار ديوانه الذي تمكن فيه من إنقاذ هذه القصائد من تحت الأنقاض فحط عن كاهله حملا ثقيلا لأن هذه المجموعة تمثّل مرحلة  من حياته قد انتهت  و لا بدّ لتجربته من أن تأخذ منعرجا جديدا ينطلق فيها إلى عوالم أخرى لعله يرى الأنثى في صور أخرى أسمى و أرقى مما انحدرت إليه في آخر الديوان  فيجرب  مع هذه المرحلة الجديدة  بحورا شعرية  غير بحر المتقارب  و يجرب أشكالا شعرية جديدة تثبت قدرته على قول الشعر و تؤكد أصالة تجربته في الساحة الشعرية التي صارت تفتقر إلى مثل ذلك النبض من المشاعر الصادقة في التعامل مع الأنثى عموما و الأم خصوصا.
كتابة الأستاذ :محمد الهادي الكعبوري
   
  Partager

انظر أيضا
دراسات و أفكار
 موضع غابة الرمال في التراث
المدينة و تراثها في الشعر العربي
تاريخ الصيام
الصيام و الحرمان 
موقف من الحجاب
ضرب المرأة
الأنثى في ديوان "قصائد من تحت الأنقاض" للشاعر نجيب بن علي
شاب أحرق بلدا
الثورة التونسية
تقبّل موت حاكم قرطاج
الآن توضحت الصورة

بين حرّيّة التّعبير و قداسة الذّات الإلهيّة

هل الثورة حاالة مؤبّدة؟
النّقاب أو العري
تجديد فهم الإسلام
لماذا لا تكون الشرائع مقدّسة إلاّ بوجود الأنبياء و الرّسل؟
هل النّساء وحدهنّ ناقصات عقل و دين؟
في المعنى اللّغويّ للخلافة
من أنا؟
تعريف
قصصي
أشعاري
مسرحياتي
تحقيق
ترجمة
دراسات
مواقع

الصفحة السابقة

طبع الصفحة

الصفحة الرئيسية | صور | غابة الرمال | الفضاء | التاريخ | من أنا؟ | عائلتي | عائلات منزل جميل | المعالم الدينية | أمثال و أقوال | المنظمات و الجمعيات | المؤمسسات | الثقافة و الفنون | ناس مروا | المتحف | راسلونا

Copyright 2012©2014 leplacartuel.com